«الأصليين»!

نشر في 24-07-2017
آخر تحديث 24-07-2017 | 00:00
 مجدي الطيب باستثناء بعض أفلام يوسف شاهين، لا يمكن القول إن الأفلام المصرية مُجهدة أثناء «الفُرجة» أو تحتاج إلى يقظة كي لا تفوتك شاردة ولا واردة فيها، كما يحدث مع غالبية الأفلام الأجنبية. بل يمكن القول إنها أفلام سهلة إلى درجة السطحية، وأحادية إلى حد البلادة، وهو الأمر الذي اختلف كثيراً مع عرض «الأصليين»، الذي كان بمثابة الحجر الذي ألقي في الماء الراكد، الذي يمكن تسميته «التلقي البليد»!

من يشاهد «الأصليين» ينبغي أن تتوافر لديه مقومات عدة، على رأسها العقل النابه، والذهن المتقد، والعاطفة اليقظة، وقبل هذا كله القدرة على تفكيك العمل، واستخلاص رسائله، فهو واحد من الأفلام التي تُجبرك على التركيز، ولا تحرمك من المتعة، وإن تطلّب منك الإلمام بالرواية الشهيرة «1984»، التي كتبها جورج أورويل (1903 - 1950)؛ فالفارق ليس كبيراً بين الموظف «وينستون سميث»، الذي تراقبه الشرطة ويراقبه جيرانه قبل أن يصبح هو نفسه رقيباً على صديقه، وبين «سمير عليوة» (ماجد الكدواني) موظف البنك الذي فوجئ بقرار طرده، ولم يُقاوم طويلاً محاولة تجنيده من «رشدي أباظة» (خالد الصاوي). بل إن «الأصليين»، الذين يرون أنفسهم «روح الوطن.. وحراسه»، ليسوا سوى النسخة العصرية المنقحة من «الأخ الكبير»، الذي يمثل الحزب الحاكم، في رواية جورج أورويل، الذي يُحصي على المواطنين أنفاسهم، ويمارس القمع والتزوير والتعذيب، باسم الدفاع عن الوطن والطبقة العاملة!

هذه الرؤية «الأورويلية»، إن جاز التعبير، تركت آثارها في فيلم «الأصليين»، الذي كتبه أحمد مراد وأخرجه مروان حامد، فالحديث لا ينقطع عن «تدجين» المواطن، والرغبة العارمة في إدخاله إلى «الحظيرة»، وتحويل المجتمع إلى مجموعة من «المخبرين» كلٌ يراقب الآخر، بحجة أن الله نفسه كان يُراقب الشيطان، الذي وصف بأنه «أول خلية نائمة في الحياة»، كما جاء على لسان «رشدي أباظة» (خالد الصاوي)، الذي اتسم دوره بالطرافة، وتعامل بدوره مع الشخصية بفهم عميق لا يخلو من خفة ظل، وهي سمة ميزت أبطال الفيلم جميعاً، وإن تفاوتت درجة القبول حسب طريقة كتابة الشخصية. بمعنى أنك لا تجد غرابة وأنت تشاهد ماجد الكدواني وهو يجسد شخصية موظف البنك، ابن حي مصر الجديدة، وحيد أمه، التي فرقت بينه وبين حبيبته وزوجته من أخرى، وأجبر على ممارسة لعبة كرة الطاولة، ربما ليتحول مع الأيام إلى الكرة التي يتم التلاعب بها، سواء من ناحية زوجته «ماهيتاب» (كندة علوش) مدمنة التسوق، أو ابنته وولده، الذي يُعد بالنسبة إليهما «الحافظة المالية» ليس أكثر، أو التلاعب به بواسطة «الأصليين»، رغم علمه أنه «ترس» في عجلة اختراق وانتهاك المجتمع المراقب بالكامل!

إلى هنا كان يمكن للفيلم أن يتخذ من ظاهرة التنصت، وانتهاك الخصوصية، محوراً لقضية إنسانية صارت «عالمية»، لكن إشارته الواضحة إلى التسعين مليون مواطن (عدد سكان مصر حسب آخر إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء)، الذين تم استهداف 54 مليوناً منهم، ونجحت السيطرة على 50 مليوناً منهم، أي بنسبة 60 % من جملة السكان، أضفى صبغة محلية (مصرية) على حسابات الفيلم، وهو البعد المحلي، الذي ظهر في حرص البطل «سمير» على شراء أرشيف ثورة 1919، وتأصيل أسطورة ياسين وبهية، وإشادة البطلة «ثريا» بفضل الحضارة الفرعونية على الحضارة الإنسانية والإبداع في العالم. لكن منذ اللحظة التي بدأت فيها عملية رصد وتتبع ومراقبة «ثريا جلال» (منة شلبي)، ابنة الدبلوماسي، التي تبلغ من العمر 33 عاماً، وتخرجت في جامعة أكسفورد، ونالت درجة دكتوراه في «رصد منحنى الحضارات الإنسانية»، هبط إيقاع الفيلم، وترهل، وجنح إلى«الشوفينية»، عبر الحديث المُضجر عن المؤامرة التي بدأت بتدمير زهرة اللوتس الزرقاء، التي غاب الإبداع بتغييبها، والضمير الذي أيقظنا به العالم، ومصر القديمة التي عرفت حقوق الإنسان، والزمن الذي يخشى الأهرامات.. وبقية الخزعبلات التي أثقلت كاهل الفيلم، وأرهقت المتلقي، وأدخلته في متاهة عجيبة!

تكمن القيمة الحقيقية لفيلم «لأصليين»، بل جرأته الفعلية، في لغته السينمائية، وبراعة المخرج مروان حامد في تقديم كادرات بصرية هي أقرب إلى اللوحات الساحرة، بالإضافة إلى نجاحه المُذهل في توظيف عناصره الفنية لاستنهاض البعد الدرامي، كاختيار زوايا الكاميرا بحيث تُكمل معنى التنصت أو التلصص، والغرائبية المقننة (تصوير أحمد المرسي)، والإيقاع المنضبط (مونتاج محمد حافظ)، وتوظيف الشريط السمعي/ البصري، وموسيقى هشام نزيه، الذي أفرط كثيراً في توظيف آلاته الموسيقية في محاولة لإضفاء جو من التشويق والغموض، وبدا متأثراً بنجاحاته في «السبع وصايا» و«الفيل الأزرق»!

على صعيد آخر، جاء أداء خالد الصاوي مُفعماً بالسخرية، وكأنه يُعيدنا إلى أحداث ووقائع عشناها في الستينيات، بينما امتلك أحمد مراد الجرأة لاقتحام مناطق شائكة، كالحديث عن فكرة الرقابة التي أوحى بها الله عز وجل، ومنحها لنا كرخصة شرعية (أليس هو الذي سخر ملكين لمراقبة الإنسان في ليله ونهاره؟).

back to top