دماغك مصمَّم لبلوغ استنتاجات خاطئة!

نشر في 27-06-2017
آخر تحديث 27-06-2017 | 00:00
No Image Caption
يحبّ بول أوفيت أن يروي ما حصل مع زوجته، طبيبة الأطفال بوني أوفيت، حين أصيب طفل بنوبة تشنّج عندما كانت توشك أن تعطيه اللقاح. لو أنها أعطته اللقاح قبل دقيقة، كان الجميع سيظنون أن اللقاح سبّب النوبة، وما كانت أية دراسة في العالم لتقنع والديه بعكس ذلك (قام الزوجان أوفيت بدراسات مماثلة لأن بول مدير «مركز التوعية حول اللقاحات» في مستشفى فيلادلفيا للأطفال ألف كتاب Deadly Choices:How Anti-Vaccine Movement Threatens Us All خيارات قاتلة: كيف تهددنا الحركة المضادة للقاحات؟).
قالت جيني ماكارثي المعروفة بمعارضتها اللقاحات إن إصابة ابنها بالتوحد والنوبات المَرضية ترتبط بارتفاع عدد اللقاحات التي تلقاها لأنها سبقت ظهور أعراضه.

لكن تشير قصة أوفيت إلى أن مرض الأطفال بعد تلقي اللقاح لا يؤكد مسؤولية اللقاح. أطلق علماء النفس اسماً محدداً على التحيّز المعرفي الذي يجعلنا نميل إلى إقامة علاقة سببية بين حدثَين لمجرّد أنهما يقعان بشكل متلاحق: «وهم السببية». نُشرت دراسة حديثة في «المجلة البريطانية لعلم النفس» بعدما حللت تأثير ذلك الوهم على طريقة استيعابنا المعلومات الجديدة وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن الأوهام السببية لا تنشر أفكاراً خاطئة في العقل فحسب، بل يمكن أن تمنع المعلومات الجديدة من تصحيحها أيضاً.

أدوية وأمراض

استعانت الطبيبة النفسية هيلينا ماتوت وزملاؤها في جامعة «ديوستو» في «بلباو»، إسبانيا، بـ147 طالباً جامعياً للمشاركة في مهمّة محوسبة حيث يؤدي كل واحد منهم دور طبيب متخصص بمرض خيالي نادر ويقيّمون مدى قدرة الأدوية على معالجة تلك الأمراض.

في المرحلة الأولى من الدراسة، انقسم الطلاب المتطوعون على مجموعتين: مجموعة «الوهم الكبير» التي شملت مرضى أخذوا الدواء «أ»، ومجموعة «الوهم الضئيل» التي شملت مرضى لم يأخذوا ذلك الدواء. عاين كل طالب متطوع مئة مريض وتبلّغ الطلاب في كل حالة بتعافي المرضى أو بعدم شفائهم. لكن لم يتبلغ الطلاب المتطوعون بعدم فاعلية الدواء (بلغ معدل التعافي 70 % سواء أخذ المرضى الدواء أو لم يأخذوه). كان الأشخاص في مجموعة «الوهم الكبير» أكثر ميلاً إلى استنتاج خلاصة خاطئة عن مفعول الدواء.

لما كان الطلاب المتطوعون في مجموعة «الوهم الضئيل» حصلوا على فرص إضافية لمراقبة مسار التعافي من المتلازمة من دون أخذ الدواء، فلوحظ أنهم كانوا أقل ميلاً إلى افتراض وجود رابط بين التعافي والدواء. تشير دراسات سابقة إلى أن رؤية عدد كبير من الناس الذين يحققون النتيجة المنشودة بعد القيام بخطوة غير فاعلة تدفع المراقِب إلى إقامة رابط بين الظاهرتين.

أصبحت الدراسة مثيرة للاهتمام في مرحلتها الثانية. تكررت التجربة نفسها لكن تلقى بعض المرضى هذه المرة دوائين: الدواء غير الفاعل من المرحلة الأولى ودواء فاعل للمرحلة الثانية. عاين المتطوعون من المجموعتين 50 مريضاً تلقوا الدوائين و50 آخرين لم يأخذوا أي دواء. تعافى المرضى في مجموعة الدواء في 90 % من الحالات بينما بلغ معدل التعافي في المجموعة التي لم تأخذ الأدوية 70 %.

كان المتطوعون في مجموعة «الوهم الكبير» أقل ميلاً من المشاركين في مجموعة «الوهم الضئيل» إلى الاعتراف بفاعلية الدواء الجديد ونسبوا المنافع إلى الدواء الذي اعتبروه فاعلاً في المرحلة السابقة. أدت قناعتهم السابقة بشأن فاعلية الدواء الأول إلى منعهم من اكتساب المعلومة الجديدة.

أوضحت ماتوت: «يجب أن تكون واثقاً مما يحصل قبل أن تنسف ما تعرفه وتستبدل به معلومة جديدة».

ربما تبدو هذه النتيجة مجرّد مناورة نفسية مثيرة للاهتمام لو أنها لا تجعلنا معرّضين للخداع. يستغل بعض العلاجات «البديلة» وهم السببية عبر استهداف الحالات التي تسجّل طبيعياً معدلات مرتفعة من التعافي التلقائي كالصداع وألم الظهر والزكام. لا تزال العلاجات المزيفة شائعة جزئياً لأنها تعطي شعوراً بالقوة للأشخاص اليائسين من خلال جعلهم ينشغلون بنشاط معيّن بانتظار أن تتلاشى مشكلتهم.

لكن ثمة ادعاءات مشبوهة غير مخادعة. يسوّق بعض العيادات الموثوق بها البلازما الغنية بالصفائح الدموية كعلاج «ثوري» للإصابات الرياضية مع أن البيانات المتعلقة بهذه العلاجات لا تزال مختلطة. حين كنت أكتب عن البلازما الغنية بالصفائح الدموية في السنة الماضية، فوجئت حين علمتُ أن أياً من الأطباء الذين قابلتُهم لم يتابع نتائجه. لما كان الأشخاص الذين يتلقون البلازما الغنية بالصفائح الدموية يختارونها بعد تجربة جميع الحلول الأخرى، فمن المتوقع أن يقابل الأطباء الذين يعطون العلاج مرضى كثيرين كانوا على طريق التعافي أصلاً لأن مشكلتهم كانت توشك على الانتهاء طبيعياً.

يعني هذا الوضع أن الأطباء يكررون على الأرجح النهج المستعمل في الجزء الأول من دراسة ماتوت، أي أنهم يميلون إلى إقامة رابط غير موجود بين علاج البلازما الغنية بالصفائح الدموية وبين التعافي. لن نعرف الحقيقة إلى أن يبدأوا بتعقب نتائجهم ومقارنتها بنتائج المرضى الذين لم يتلقوا العلاج (للاحتماء من وهم السببية، تقضي طريقة سهلة بزيادة الانتباه واحتساب النتائج). لا يحتفظ الأطباء بسجل مثالي لتقييم أدائهم.

أداء الأطباء

نُشرت دراسة في عام 2006 في «مجلة الجمعية الطبية الأميركية» واكتشفت أن الأطباء لا يستطيعون أن يحكموا على أدائهم الخاص، فهم يبقون مجرّد بشر، لذا لا عجب في أن تعج مهنة الطب بممارسات غير مثبتة. حتى لو برزت أدلة واضحة على فاعلية علاج أو إجراء طبي أو عدم فاعليته، ربما لا يتقبّلها الأطباء والمرضى. في بعض الحالات، يكون وهم السببية مسؤولاً عن موقفهم، لكن تكون الأسباب أكثر تعقيداً غالباً. تؤثر انحيازات معرفية أخرى في طريقة معالجة المعلومات، من بينها التفكير التحفيزي (نريد جميعاً أن نصدّق أنّ الأمور التي نقوم بها تُحدث فرقاً) وإهمال معدل القاعدة (عدم التنبه إلى ما يحصل في ظل غياب أي علاج) والانحياز المؤكد (الميل إلى البحث عن أدلة تدعم ما نعرفه أصلاً وتتجاهل المعطيات المتبقية). في عالم الطب، ربما تدفع الحوافز المسيئة الناس في الاتجاه الخاطئ. ما من حل سهل في هذا المجال.

لكن ثمة مسألة مؤكدة واحدة: لن يكون الاكتفاء بإغراق الناس بالمعلومات أمراً مفيداً. في السنة الماضية، نشر العالِم السياسي براندن نيهان ومساعدوه في «دارتموث» نتائج تجربة عشوائية تستعمل أربع مقاربات مختلفة للتأثير في مواقف الأهالي من اللقاحات. بلغ عدد المشاركين في الدراسة 1759 شخصاً وانقسموا على مجموعات وتلقّت كل مجموعة فرعية معلومات عن أهمية اللقاحات (بدءاً من ضرورة تجنب الأمراض التي يمكن الاحتماء منها عبر لقاحات الحصبة والنكاف والحميراء وصولاً إلى صور أولاد أصيبوا بتلك الأمراض وقصة مؤثرة عن طفل كاد يموت بسبب الحصبة). لكن لم تنجح أيٌّ من تلك الجهود في إقناع الأهالي بتلقيح أولادهم.

اختبرت ماتوت وزملاؤها حديثاً مقاربة مختلفة. بدل محاولة التصدي للروابط المزيفة عن طريق المعلومات، اختبروا طرائق لتحسين طريقة تفكير الناس. في دراسة نُشرت في مجلة «بلوس ون» العلمية، طلبوا من مجموعة مراهقين أن يختبروا سواراً مزوداً بشريط معدني. تعمّد الباحثون استعمال لغة تعجّ بكلمات متخصصة ومفاهيم علمية مزيفة وشرحوا أن الشريط المعدني يحسّن القدرات الجسدية والفكرية، ثم طلبوا من الطلاب أن يجربوا المنتج تزامناً مع أداء مهام مكتوبة كحل الألغاز أو القيام بتمرين حسابي. في الوقت نفسه، حثّوا المتطوعين على الاستفادة من الشريط عبر التكلم عن خصائصه المزعومة التي لاحظها مستخدموه السابقون. في نهاية التجربة، قال عدد من المشاركين إنهم مستعدون لشراء الشريط السحري المصنوع من معدن الفريت.

ثغرات في الأدلة

بدأت مرحلة جديدة: تخلى الباحثون عن دورهم في تسويق المنتج ووجّهوا المراهقين نحو تحليل ما لاحظوه للتو. من ثم، أشاروا إلى وجود ثغرات في الأدلة المرتبطة بقدرات الشريط وعرّفوا الطلاب إلى مفهوم وهم السببية مشددين على ضرورة وجود مقياس قاعدي لإقامة المقارنات وتقييم مدى قدرة المنتج على تحسين أدائهم. كان هذا الجزء الثاني من التدخل يهدف إلى تعليم المراهقين منطق التفكير النقدي حول السببية.

ثم أخضع الباحثون الطلاب لاختبار محوسب يشبه الاختبار المستعمل في الدراسة المرتبطة بوهم السببية، فشاهدوا سلسلة من المرضى الخياليين وحصلوا على فرصة إعطائهم دواءً مزيفاً (لم يعرفوا أنه غير فاعل) كي يحددوا مدى فاعليته. أجرى المشاركون الذين اطّلعوا على التحديات المرتبطة بإقامة علاقة سببية بين الظواهر تجارب إضافية بلا دواء (إنها خطوة ضرورية لقياس مدى فاعلية الأدوية) وأجروا تقييمات أكثر دقة حول مفعول الدواء.

إنها نتيجة واعدة، لكن لا يمكن التأكيد أن هذا الإجراء يمنع لاعبي الرغبي مثلاً من شراء رذاذ التخدير الموضعي أو يمنع الرياضيين الأولمبيين من أخذ مكملات خطيرة. يحذر نيهان من اعتبار هذه المقاربة التوعوية قادرة على نسف وهم السببية. في هذا السياق، أشارت دراسات نفسية عدة إلى تحسّن واعد في دقة القناعات حين تشمل مواضيع لا يهتم بها المشاركون: «لكن توضح المسائل السياسية والصحية والعلمية المثيرة للجدل أن الناس لا يطبقون مهارات التفكير النقدي بالطريقة التي يفعلونها حين ينحازون إلى الطرف الذي يعتبرونه محقاً». بحسب الدراسات التي أجراها أستاذ القانون دان كاهان في جامعة «يال»، حتى أكثر الأشخاص كفاءة يتعرضون للأفخاخ المعرفية حين تناقض البيانات أقرب استنتاج إلى قيمهم السياسية.

خطابان

ما الذي يمكن استنتاجه إذاً؟ في ظل وفرة الأدلة التي تشدّد على صعوبة التخلِّي عن القناعات الخاطئة، تحديداً إذا ارتبطت بالعواطف، سيكون تفسير المعطيات العلمية ومساعدة الناس على فهمها أولى الخطوات الضرورية في هذا المجال. إذا أردنا أن يتقبّل شخص معيّن معلومات تعارض ما يعرفه، يجب أن نجد قصة يمكنه أن يصدّقها. تتطلب هذه العملية الربط بين الخطاب الذي يتبنّاه وبين خطاب جديد يكون صحيحاً ويسمح له بالحفاظ على الصورة التي رسمها عن نفسه.

الأوهام السببية تنشر أفكاراً خاطئة في العقل وتمنع المعلومات الجديدة من تصحيحها

لا عجب في أن تعج مهنة الطب بممارسات غير مثبتة
back to top