ما قــل ودل: إنهم يقتلون البراءة في كل مكان

نشر في 04-06-2017
آخر تحديث 04-06-2017 | 00:15
 المستشار شفيق إمام سألني أحد القراء الأعزاء: لماذا لم تكتب عن مجزرة المنيا التي قتلت البراءة في هؤلاء الأطفال الذين لقوا حتفهم غدراً وببشاعة من نفر من الملثمين المسلحين الذين كانوا يتربصون بالباص الذي كان يقل هؤلاء الأطفال إلى أحد الأديرة، لزيارته وأداء الصلاة فيه، فأطلقوا عليهم وابلاً من النيران؟ فأجبته على الفور، ولم أكتب كذلك عن مجزرة مانشستر التي قتل فيها آثمون البراءة في أطفال كانوا يمرحون ويروحون عن أنفسهم مع أهاليهم، لأن هذا المسلسل الدامي الذي نتابعه كل يوم على صفحات الصحف، وعبر وكالات الأنباء وقنوات التواصل الاجتماعي، والجرائم الإرهابية التي يرتكبها "داعش" في غزوه لسورية والعراق، والمذابح التي يرتكبها على كل أرض يحتلها في هذين البلدين ضد المدنيين الذين أوقعهم حظهم العاثر في أسر هذا التنظيم الإرهابي، والعمليات الإرهابية التي يرتكبها التنظيم في تونس وفي ليبيا وفي كل مكان.

هذه الجرائم وغيرها من جرائم ترتكبها التنظيمات الإرهابية الأخرى، بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب في الصومال، ضد أبناء شعبيهما، قد أصبحت تطالعنا وسائل الإعلام بها كل يوم، فأصبحت جزءا من حياتنا اليومية، وهي لا تجد منا إلا الشجب والتنديد، وقد كتبت كثيراً منذ سنوات طويلة عن هذه الجرائم وبشاعتها، والتي ترفضها كل الأديان، وتلفظها كل المجتمعات المتحضرة.

الأديان السماوية

فالأديان السماوية جميعا تقدس الحياة، وإذا كان الإسلام بما يرتكبه هؤلاء المجرمون من جرائم بشعة باسم الإسلام قد أصبح هو المتهم بالإرهاب، فالإسلام بريء من كل هذه الجرائم، وتعترف الشريعة الإسلامية للطفل بحق الحياة حتى وهو جنين في بطن أمه، فتحرم الإجهاض وتورث الجنين لو مات مورثه وهو لا يزال جنينا.

يقول المولى عز وجل: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، وكذلك يقول "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ"، ويقول في موقع آخر "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، ويقول أيضاً: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ".

وفي هذا السياق جاءتني رسالة من الأخ والقارئ العزيز حسين نصر الدين تعليقا على ما سطرته قبل ذلك عن حرية العقيدة والتسامح في الإسلام يقول فيها: "إن خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) عندما دخل بجيشة العراق، وفتح بلدة عين التمر علم أن هناك كنيسة تسمى كنيسة "عين التمر"، وفيها عدد 33 من الغلمان يدرسون فيها المسيحية على يد كبار القساوسة لاعتناقها، وكان من بين هؤلاء ثلاثة صاروا من الأعلام البارزين في الإسلام في عصرهم فيما بعد، وكانت أسماؤهم سيرين ويسار ونصير، فأعطاهم الأمان وقام بحماية الكنيسة، إيمانا منه بحرية العقيدة، وإنه لا إكراه في الدين، وقد شجعهم هذا التسامح على أن يدرسوا الإسلام، فأسلم الأول وأنجب محمد بن سيرين من كبار أئمة التابعين في الحديث والفقه، وأسلم الثاني وأنجب إسحق أبو محمد إسحق بن يسار صاحب كتاب (السير والمغازي) المعروف بسيرة ابن إسحق، وأسلم الثالث وأنجب موسى بن النصير فاتح الأندلس وشمال إفريقيا".

حتى الحيوانات

وغريزة حب البقاء هي إحدى الغرائز الإنسانية بل الحيوانية أيضا، فهي التي تدفع الحيوانات وتوجهها دائما إلى الحفاظ على أولادها وإطعامها، بل تقاتل وتضحي بنفسها من أجل حمايتها والمحافظة عليها، ولا تتركها إلا بعد أن تشب على الطوق، وتبدأ بالاعتماد على نفسها، بعد أن تكون قد دربتها على الحركة والدفاع عن نفسها ومواجهة كل أخطار الحياة.

اليأس من روح الله كفر

فما الذي يدفع مجموعة من الشباب إلى القيام بهذه الأعمال الإجرامية، وهم يعلمون ويتوقعون كل هذا العدد من الضحايا، وكل هذا الكم من الدمار، وهم لا يطمعون في جاه أو منصب أو مال، فالموتى– كما يقال– ليس لهم جيوب؟ ما الذي يدفعهم إلى هذا سوى القنوط، وأن قتل إنسان لنفسه لهذا السبب الذي زرعوه في رأسه يجعله كافرا لقوله تعالى "إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، وقد ملك الفكر الجهادي على بعضهم كل حواسه، فهو لا يرى إلا بأعين من بشروه بجنة عرضها السموات والأرض، ولا يسمح إلا بأدائهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا في ضوء حكمهم على المجتمع وتكفيرهم له، فأصبحوا يقومون بتفجير أنفسهم لإرهاق أكبر عدد من الأرواح، مخالفين كل الشرائع السماوية التي تدعو إلى حفظ الحياة.

المجتمعات هي صانعة الجريمة

وتذهب المدرسة الأميركية في علم الجريمة إلى أن المجتمعات لا ترزأ بالمجرمين، وإنما هي تصنعهم، وأن الفرد لا يتورط في الجريمة نتيجة ميول ذات أصول عضوية نفسية، بل يقع بسبب مؤثرات اجتماعية ونفسية، وعلى ذلك ترى هذه المدرسة البحث عن أسباب الجريمة في المجتمع لا عند الفرد، فالفرد ليس خالقاً لمجتمعه إنما هو من صنعه، وهو ما كتبته في مقال نشر لي على صفحات جريدة "الأنباء" في عددها الصادر في 18 سبتمبر 2001 عقب جريمة الحادي عشر من سبتمبر.

وفي مقال نشر للأستاذ الكبير الدكتور جلال أمين في صحيفة الأهرام تحت عنوان "من طاغور إلى جريمة المنيا"، حلل فيه عوامل متعددة تشترك جميعا في هذا الشحن العاطفي لهؤلاء الشباب ضد الآخر، هي سوء التعليم وتغير العلاقة بين الطبقات الاجتماعية، وتغير علاقة السلطة بالناس، فضلا عن مشكلات نفسية وعصبية عريضة نتيجة مشاكل اجتماعية مختلفة، لا يمكن علاجها بمجرد الموعظة الحسنة، أو بالعنف المضاد.

إنما يكون ذلك بالتنبيه إلى خطورة ما نحن ماضون إليه، وهو ما أحاول التنبيه إليه في كل ما أكتب من نقد، حماية للعدالة أو للمبادئ التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير "عيش... عدالة... حرية" التي أصبحت سرابا على صخرة الإرهاب، كما قلت في مقالي المنشور على هذه الصفحة، وتحت هذا العنوان في 16 من الشهر الماضي، فأستميح القارئ عذرا، إذا تناولت في مقالاتي القادمة، ما تعانيه مجتمعاتنا من خلل سياسي واجتماعي واقتصادي، لأن هذا الخلل هو أحد أسباب ظاهرة الإرهاب وإحدى نتائجها أيضا، فهذه الأسباب هي لحمة الإرهاب وغذاؤه الذي لا ينفد في تجنيد هؤلاء الشباب وقتل البراءة فيهم لكي يرتكبوا جرائمهم البشعة في كل مكان.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top