أمراض مصرية... «صلاح الدين حقير»

نشر في 28-05-2017
آخر تحديث 28-05-2017 | 00:07
ثمة من يذهب إلى السجن طلباً للشهرة، وكثيرون لا يتورعون عن المغامرة بإطلاق تصريحات أو إصدار فتاوى أو بث تعليقات على "السوشيال ميديا" بهدف إثارة الضجة وجذب الاهتمام، وهم يعلمون يقيناً أنهم يقتربون جداً من الخطوط الحمراء، لكن "عسل الشهرة" و"جنة الأخبار" أهم لديهم من "نار السجن" و"عذاب المنفى".
 ياسر عبد العزيز في عام 1964 تم عرض فيلم سينمائي مصري لطيف بعنوان "المغامرة الكبرى"؛ وهو فيلم يؤدي فيه الممثل حسن يوسف دور شاب يريد أن يصبح مشهوراً بأي ثمن، إلى حد أنه يدعي ارتكابه جريمة قتل، لكي يصبح خبراً تتداوله الصحف، وينال الشهرة التي يحلم بها.

لا يبدو أن فكرة هذا الفيلم بعيدة تماماً عن الواقع؛ إذ لدينا عشرات الأمثلة على بعض من يقومون بأفعال مماثلة، تنطوي على مخاطر كبيرة، وتنذر بتداعيات كارثية، من أجل الحصول على الشهرة وحصد الرواج.

ما زالت أصداء قيام روائي مصري شهير بإهانة الناصر صلاح الدين، ووصفه، في مقابلة تلفزيونية بأنه "من أحقر الشخصيات في تاريخنا" تتوالى، خصوصاً أن الرجل لم يتراجع عما قاله، أو يقدم ذرائع موضوعية جادة تبرره.

انقسم النقاد إزاء ما قاله الروائي المعروف بحق "بطل حطين"؛ لكنّ قطاعاً عريضاً منهم اعتبر هذا الحديث "مؤامرة على سيرة الناصر يشارك فيها هذا الروائي"، أو خطة "إلهاء استراتيجي" يسهم في تنفيذها لكي يتم صرف نظر الجمهور عن القضايا الملحة والمتاعب الجمة التي يواجهها، في ظل ضغوط وارتفاع في الأسعار.

من جانبي، لا أعتقد أن هذا الروائي فعل ما فعل إلا لسبب واحد، لا يتعلق بـ"بحثه المعمق في التاريخ"، أو "وثائق وتحليلات نادرة مطمورة تكشفت له وحده"، أو "مطاوعة السلطات في رغبتها لشغل العوام بقضايا جدلية ساخنة"، أو "المساهمة في مخطط شيعي يهدف إلى النيل من مكانة الناصر"، وإنما فقط... ليدخل الأخبار.

لم يُرد هذا الروائي، بقضيته المثيرة للأسى التي فجرها أخيراً، شيئاً سوى حصد الشهرة، ودخول الأخبار، وتصدر قوائم "الترافيك"، وأن يكون نجماً مطلوباً في عدد كبير من المقابلات، ومحوراً رئيساً في كثير من التقارير، والتحليلات، التي تدفع به إلى الواجهة، وتبعده عن مراكز الظل، التي اعتادها كل باحث موضوعي جاد.

شيء قريب من هذا فعلته أستاذة في إحدى الجامعات المصرية، حين بثت شريطاً يظهرها ترقص "رقصاً شرقياً" على سطح منزلها.

عندما حدثت الضجة الكبيرة بسبب نشر موضوع صحافي عن "رقصة الدكتورة"، وانهالت عليها طلبات المعدين والصحافيين لاستضافتها في البرامج وإجراء الحوارات معها، شعرت بعوائد سخية للفعل الحاد الذي أقدمت عليه؛ وهي عوائد بدت أكثر لذة من تلك التي يمكن أن يُحصّلها أي أستاذ جامعي جاد يكرس نفسه لأبحاثه وواجباته في تعليم الطلاب.

لذلك فقد أُسقط في يد الدكتورة عندما انسحب الضوء فجأة عنها، بعدما ظلت تملأ الدنيا وتشغل الناس لأكثر من أسبوع، وعندها تفتق ذهنها عن ممارسات جديدة "تدخل بها الأخبار" مرة أخرى؛ وبناء على ذلك، قررت أن تنشر صوراً لها بـ"المايوه البكيني"، كما قامت بتنفيذ "وصلة رقص" ثانية، وبثتها أيضاً على مواقع "التواصل الاجتماعي"، لعلها تستطيع أن تجذب الأنظار مجدداً، وتحصد شهرة و"ترافيك".

لا يختلف موقف "الدكتورة الراقصة" عن هذا الداعية الديني الذي يقضي عقوبة في السجن الآن، بسبب ما أقدم عليه من تجاوز مريع، واستهزاء بعقول الناس، واعتداء على المنطق.

إن هذا الشيخ يظهر في مقام الواعظ العالم بالدين، لكن الشهرة تلاعبت بعقله، وجعلته يتطاول ويقول على الملأ إنه هو ذاته "المهدي المنتظر"، وحين أُحكمت حلقات المساءلة والحساب حوله، قال إنه لم يفعل ذلك إلا لكي يثير انتباه الناس.

تكاليف كبيرة دفعها هذا "الشيخ" من عمره وسمعته لكي "يدخل الأخبار"، ويحظى باهتمام الصحافيين والمعدين والمذيعين وأفراد الجمهور، وتحصد الموضوعات التي تتناول فعلته أكبر عدد من القراءات والتعليقات في المواقع الإلكترونية، ويتبادل الجمهور صوره وتصريحاته ومقاطع الفيديو الخاصة به على وسائل "التواصل الاجتماعي".

لا أعتقد أن "دخول الأخبار"، وحصد الشهرة، وتعزيز الشعبية، كانت عوامل غائبة عن شيخ آخر محترم تورط في طعن الإخوة المسيحيين في كرامتهم، وازدراء عقيدتهم، حين وصفها بـ"الفاسدة" ووصفهم بأنهم "كفار".

لا يمكن فصل تصرف هذا الشيخ، المسؤول السابق في إحدى الوزارات المصرية، حيال الإخوة المسيحيين عن رغبته في تعزيز مركزه التلفزيوني، وتقوية ذرائع استمراره في تقديم برنامجه، وتحسين شروط عمله مع المحطة الفضائية التي تبثه.

لم يكن تاريخ هذا الشيخ يوحي بأنه يمكن أن يتورط ورطة كتلك، ولم يكن خطابه السابق منفلتاً أو غير مسؤول، ولم يكن مضطراً أبداً إلى التطرق إلى تلك القضية بالذات خلال حصته التلفزيونية، ولم يكن عاجزاً عن أن يجد مئة طريقة لتفادي التورط في ازدراء عقيدة مواطنين مصريين، لذلك، فالأرجح أنه بحث عما يمكن أن يجعله "نجماً في الأخبار"، وقد حصل على ما كان يريد... وأكثر.

بالنسبة إلى هؤلاء الذين يذوقون حلاوة الشهرة، ويعانقون "المجد" الذي يحققه "الترافيك"، يصعب جداً أن يقبلوا بالانزواء والبقاء في الظل، إلا إذا كانوا من قماشة ثرية ومعدن أصيل، ولديهم قدرة كبيرة على ضبط النفس، ومتصالحين مع الذات.

بغير تلك الشروط الصعبة، فإن هؤلاء المشهورين أو أنصاف المشهورين أو الباحثين عن الشهرة بأي ثمن، يمكن أن يفعلوا أي شيء لكي "يدخلوا الأخبار" من جديد، حتى لو كان ثمن تلك الشهرة دخولهم السجن، أو تشتتهم في المنافي، أو فقدان الاعتبار.

ثمة من يذهب إلى السجن إذاً طلباً للشهرة، وكثيرون لا يتورعون عن المغامرة بإطلاق تصريحات أو إصدار فتاوى أو بث تعليقات على "السوشيال ميديا" بهدف إثارة الضجة وجذب الاهتمام، وهم يعلمون يقيناً أنهم يقتربون جداً من الخطوط الحمراء، لكن "عسل الشهرة" و"جنة الأخبار" أهم لديهم من "نار السجن" و"عذاب المنفى".

لا يختلف هؤلاء كثيراً عن بطل فيلم "المغامرة الكبرى"؛ فهم يرتكبون من الأفعال ما قد يؤدي بهم إلى السجن، أو يقوض مكانتهم واعتبارهم، طالما أن ذلك سيضمن لهم الشهرة.

إذا كان طالبو الشهرة يتجاوزون لـ"يدخلوا الأخبار"، فعلى الجمهور الواعي أن يعاقبهم بالتجاهل والنسيان، ولا يمكنهم من بغيتهم على جثث القيم والحياء والمصلحة العامة.

* كاتب مصري

back to top