الحرارة... كيف تقضي على الخلايا؟

نشر في 14-05-2017
آخر تحديث 14-05-2017 | 00:04
No Image Caption
فوق حرارة معينة، تنهار الخلية وتموت. لفهم سبب عدم تحمّل الأخيرة الحرارة، يتعلّق أبسط تفسير بالأشكال الجميلة والدقيقة التي تحملها البروتينات الضرورية للحياة (أي تلك التي تستخرج الطاقة من الغذاء أو من أشعة الشمس وتصدّ الاعتداءات الخارجية وتدمّر المخلفات...).
تبدأ البروتينات على شكل جدائل طويلة، ثم تنطوي على شكل لوالب ودبابيس شعر وتركيبات أخرى بحسب تسلسل مكوناتها. تؤدي هذه الأشكال دوراً محورياً في ما تفعله. لكن حين تبدأ الحرارة بالارتفاع، تتفكّك الروابط التي تحافظ على تماسك الهياكل البروتينية: تتفكك أضعف الروابط أولاً ثم أقواها مع تصاعد الحرارة.
من المنطقي أن يكون فقدان هيكل البروتينات بدرجة حادة قاتلاً. حتى الفترة الأخيرة، بقيت التفاصيل المرتبطة بحقيقة موت الخلايا الساخنة وطريقة القضاء عليها مجهولة. ولكن إنجازاً في هذا المجال مهماً تحقّق أخيراً.
لكشف النقاب عن حقيقة موت الخلايا الساخنة وطريقة القضاء عليها، حلّل خبراء الفيزياء الحيوية في «المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا» في زيوريخ سلوك كل بروتين في خلايا مأخوذة من أربعة كائنات حية مختلفة عندما ترتفع الحرارة.

نُشرت الدراسة ومعطياتها الغنية حديثاً في مجلة «ساينس»، وكشفت أن مجموعة صغيرة من البروتينات الأساسية تتفكّك تحت تأثير الحرارة التي تقتل الخلايا (سواء كانت الخلية بشرية أو مأخوذة من جراثيم الإشريكية القولونية). كذلك يبدو أن ارتفاع نسبة البروتين في الخلية يرتبط بشكل مثير للاهتمام بمدى استقرار البروتين. تعطي الدراسة لمحة عن القواعد الأساسية التي تحكم نظام البروتينات وأسباب اضطرابها: بدأ الباحثون يدركون أن لتلك القواعد تداعيات تتجاوز أثر الحرارة القاتل.

شرحت باولا بيكوتي، خبيرة الفيزياء الحيوية التي قادت الدراسة، أن التجارب الحاصلة اشتقت من سؤال شائك قديم: لماذا يصمد بعض الخلايا على حرارة مرتفعة فيما تموت خلايا أخرى؟ تعيش جرثومة ثيرموس ثيرموفيلوس بكل سعادة في فصل الربيع الحار، وحتى في سخانات المياه المنزلية، بينما تذبل جرثومة الإشريكية القولونية إذا تجاوزت الحرارة عتبة الأربعين درجة مئوية.

تشير أدلة قوية إلى أثر الاختلافات في مستوى استقرار البروتينات في كل كائن حي. لكن لا يسهل أن نراقب سلوك البروتين أثناء وجوده داخل الخلية الحية مع أنها الطريقة المثالية لفهمه. ولا يسمح عزل البروتين في أنبوب اختبار إلا بتقديم أجوبة جزئية لأن البروتينات داخل الكائنات الحية تتلاصق أو تغيّر معطياتها الكيماوية أو تعطي بعضها بعضاً الشكل المناسب. لفهم الأنواع المتفككة وسبب انهيارها، يجب أن يراقب الباحثون البروتينات حين تتابع التأثير في بعضها بعضاً.

مؤتمتة متشعّبة

لمعالجة هذه المشكلة، ابتكر الفريق عملية مؤتمتة متشعّبة حيث يفتحون الخلايا ويسخّنون محتواها على مراحل، فيطلقون بذلك الأنزيمات التي تُقطّع البروتينات في كل مرحلة. تجيد تلك الأنزيمات تقطيع البروتينات كي تنفتح ويتمكن الباحثون من تحديد البروتينات المتفككة مع كل زيادة في مستوى الحرارة عبر النظر إلى القطع. بهذه الطريقة، تمكنوا من إعداد رسم بياني على شكل منحنى مفتوح أو متبدّل لكل بروتين من أصل آلاف البروتينات التي كانوا يدرسونها، فعرضوا مسار المنحنى فيما كان ينتقل من بنية سليمة على حرارة مريحة إلى حالة متبدلة تزامناً مع ارتفاع درجات الحرارة.

للتأكد من تغيّر تلك المنحنيات لدى مختلف الأجناس، طبّقوا العملية نفسها على خلايا مأخوذة من أربعة أجناس: البشر، والإشريكية القولونية، وجراثيم ثيرموس ثيرموفيلوس، والخميرة. قال آلن دروموند، عالم أحياء في جامعة شيكاغو، إنها دراسة جميلة وشدّد على مقياس العملية ودقتها.

تعلّقت إحدى أوضح الملاحظات بعدم انفتاح البروتينات بشكل جماعي عند ارتفاع الحرارة لدى جميع الأجناس. قالت بيكوتي إنهم شاهدوا بكل بساطة انهيار مجموعة فرعية صغيرة من البروتينات في مرحلة مبكرة جداً، وكانت تلك البروتينات أساسية. في رسم بياني يشبه شكل الشبكة ويكشف العلاقات المتبادلة بين البروتينات، لوحظ أن تلك البروتينات الهشة كانت على مستوى عالٍ من الترابط، ما يعني أنها تؤثر في عمليات متعددة في الخلية. أوضحت بيكوتي: «من دون تلك البروتينات، لا تستطيع الخلية أن تعمل. وحين تختفي، تنهار الشبكة كلها على الأرجح». ستموت الخلية نتيجةً لذلك طبعاً.

مقارنة البيانات

لاستكشاف الصفات التي تضمن استقرار حرارة البروتينات، قارن الباحثون بيانات مرتبطة بالإشريكية القولونية وجراثيم ثيرموس ثيرموفيلوس. بدأت بروتينات الإشريكية القولونية تتفكك على حرارة 40 درجة مئوية وتحللت في معظمها حين بلغت الحرارة 70 درجة. لكن على تلك الحرارة نفسها، بدأت بروتينات جراثيم ثيرموس ثيرموفيلوس تشعر بالانزعاج بكل بساطة: حافظ بعضها على شكله رغم بلوغ الحرارة 90 درجة على الأقل. عليه، اكتشف فريق البحث أن بروتينات جراثيم ثيرموس ثيرموفيلوس أقصر من غيرها وأن بعض الأشكال والمكونات يظهر في مناسبات إضافية داخل البروتينات الأكثر استقراراً.

ربما تساعد هذه النتائج الباحثين على تصميم بروتينات تتمتّع بمستوى استقرار يناسب حاجاتها. في عدد كبير من العمليات الصناعية التي تستعمل الجراثيم مثلاً، يسمح ارتفاع الحرارة بزيادة الإنتاج لكن تموت الجراثيم بعد فترة قصيرة بسبب صدمة الحرارة. تحدثت بيكوتي عن أهمية اكتشاف مدى قدرتنا على تجديد استقرار الجرثومة عبر جعل تلك البروتينات القليلة التي تتفكك في مرحلة مبكرة أكثر قدرة على مقاومة الحرارة.

لكن بعيداً عن هذه الملاحظات كلها، يشعر بعض علماء الأحياء بحماسة فائقة بعدما جمع الفريق كمية وافرة من المعلومات عن مدى سهولة انفتاح كل بروتين. يشكّل استقرار البروتينات قياساً مباشراً لاحتمال نشوء تجمعات: إنها كتل من البروتينات المفتوحة والمتلاصقة. غالباً ما تكون تلك التجمعات أشبه بكابوس بالنسبة إلى الخلية وقد تؤثر في مهامها الأساسية. يمكن أن تنعكس مثلاً على بعض الحالات العصبية الحادة كمرض الزهايمر حيث تُفسِد صفائح البروتينات المتبدلة عمل الدماغ.

لكن لا يعني ذلك أن التجمعات تتشكّل لدى المصابين بتلك الحالات دون سواهم، بل العكس صحيح. بدأ الباحثون يدركون أن هذه العملية تتكرّر طوال الوقت، من دون مؤثرات واضحة، وأن للخلية السليمة طرائقها الخاصة للتعامل معها. في هذا المجال، قال ميشال فندروسكولو، خبير في الكيمياء الحيوية في جامعة كامبريدج: «أظنّ أن هذه الظاهرة باتت تُعتبر شائعة جداً. ينفتح معظم البروتينات بطريقة شائبة ويتجمّع في البيئة الخلوية».

يتعلّق معظم المعلومات الجوهرية التي حصلت عليها بيكوتي بالوقت الخاطف الذي يبقى فيه أي بروتين مفتوحاً، إذ يحدّد مستوى تجمّع البروتينات. لا ينفتح بعضها بأية درجة لكنه يتجمّع، بينما تنفتح بروتينات أخرى في ظروف محددة ويخوض غيرها هذه العملية باستمرار.

ستسمح المعلومات المفصّلة في الدراسة الجديدة بتسهيل طريقة تحليل سبب تلك الاختلافات ومعناها. حتى أن بعض المنحنيات المتبدلة يترافق مع أنماط تشير إلى تجمّع البروتينات بعدما تنفتح. أوضح فندروسكولو في هذا الشأن: «تمكّنوا من مراقبة الخطوتين معاً، أي انفتاح البروتينات وتجمعاتها اللاحقة. إنها النقطة المثيرة للاهتمام في الدراسة».

زاوية مختلفة

فيما يهتم علماء كثيرون بالتجمعات بسبب الضرر الذي تسببه، يفكر البعض بهذه الظاهرة من زاوية مختلفة. قال دروموند إن بعض التجمعات ليس مجرّد أكوام من المخلفات تطوف حول الخلية، بل يحتوي أيضاً على بروتينات نشطة تتابع إتمام عملها.

لنتخيّل أننا نشاهد عن بُعد دخاناً يتصاعد من مبنى وتحيط به أشكال نظنّ أنها جثث مسحوبة من تحت الأنقاض. لكن إذا اقتربنا من المكان، سنلاحظ أنهم أشخاص أحياء هربوا من المبنى المحترق وينتظرون انتهاء الحادثة الطارئة. هذا ما يحصل في دراسة تجمعات البروتينات، بحسب دروموند: بدأ الباحثون يكتشفون أن البروتينات المتجمّعة قد لا تصبح بمصاف الضحية بالضرورة بل إنها تنجو أحياناً ويشهد مجال كامل الآن انفجاراً تاماً، من وجهة نظره.

بدل أن تكون ظاهرة التجمّع مؤشراً إلى وجود الأضرار، تصبح طريقة كي تحافظ البروتينات على عملها حين يسوء الوضع. حتى أنها تحميها من بيئتها المحيطة مثلاً. وحين تتحسن الظروف، يمكن أن تغادر البروتينات التجمعات وتطوي نفسها مجدداً. أوضح دروموند: «تشهد البروتينات تغيرات شكلية حساسة تجاه الحرارة وقد توحي بأنها تنطوي بطريقة شائبة إذا لم ننظر إليها عن قرب. لكن يحصل أمر آخر».

في دراسة نُشرت في مجلة «سيل» في عام 2015، رصد دروموند ومساعدوه 177 بروتيناً مشتقاً من الخميرة وبدا كأن تلك البروتينات تستأنف عملها بعد عزلها داخل التجمعات. وفي دراسة أجريت في مارس الماضي، اكتشف فريقه أن تغيير أحد تلك البروتينات كي يعجز عن التجمّع، يسبب أضراراً حادة في الخلية.

في المحصّلة، يذكر البحث أن البروتينات هياكل حيوية مثيرة للفضول. للوهلة الأولى، تبدو شبيهة بآلات جامدة تقوم بمهام ثابتة ولا يناسبها إلا شكل واحد. لكن قد تتغير البروتينات وتتخذ أشكالاً مختلفة أثناء قيامها بعملها الطبيعي. وتتغير أشكالها جذرياً عند الحاجة لتوحي بأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة مع أنها في الحقيقة تقوّي نفسها. على المستوى الجزيئي، ربما تكون الحياة عبارة عن دورة متلاحقة من النهوض والانهيار.

أشكال البروتينات تتغيّر عند الحاجة لتوحي بأنها تلفظ أنفاسها مع أنها في الحقيقة تقوّي نفسها
back to top