صلصال أزرق

نشر في 06-05-2017
آخر تحديث 06-05-2017 | 00:00
No Image Caption
مفتاح المنزل في يدها... وبينما هي توشك أن تفتح الباب نظرت إلى صندوق البريد المُهْمَل المُغَطَّى بالتراب وشغلها احتمال أن يحوي شيئاً يبهجها.

كانت الساعة العاشرة والنصف ليلاً. كانت عائدة من مقهى قضت فيه ما يقارب الثلاث ساعات مع صديقتها.... تحكي وتحكي وتُخْرِج ما بداخلها من شكوى تجاه كل ما لم يَرُق لها خلال الأسبوع الماضي. كل ما يضايقها.. كل ما يتعارض مع مبادئها.. وينخسف أمام معاييرها.

“لعل في الصندوق بريداً يُنْعِش يومي وهو يوشك على الانتهاء. قد أجد فيه ما يَسُرُّني. أأتركه مغلقاً وأمضي فَرِحة بظني أن فيه ما أتمنى؟ أم أفتح بابه وأستَعِد لكل احتمال يواجهني؟”.

تتردد.. تتساءل.. تنظر إليه.

قرارات نتخذها صغيرة كانت أو كبيرة تطبع طابعها على قلوبنا، ذاكرتنا، ومسار حياتنا.. قررت أن تبدأ بفتح الصندوق بدلاً من الباب بحثاً عن شيء قد يُشبهها في ذاك الصندوق.. يبعث فيها أملاً.. يجاري طبيعتها الحالمة المحبة للمفاجآت خاصة تلك التي تأتي على أعتاب يوم عادي جداً.

تنازلت كثيراً ليس فقط عن أحلام وفى لها خيالها منذ عقود.

بل حتى عن التساؤل عن الحكمة التي كانت وراء عدم تحققها. عاماً بعد عام.. موقفاً ثم آخر.. تركت كل شيء.. كل الأحلام التي رسمتها مخيلتها.. كتبتها أناملها.. جمعتها يداها من ورق وأحرف.. رسومات وألوان.. وحفظتها كقصاصات داخل زجاجة يموج بها المحيط.. موجات من ارتفاعات حركة الروح نحو ما تريد.. وعمقها الذي ما زالت لم تتعرف عليه بعد، واضطرابات على الساحل.. المجتمع، الظروف، المتاح، المتعارف عليه.

ما بين العمق والساحل أتت بمطرقة من قسوة.. ومن منتصف النبض ومركز الروح هَشَّمَت تلك الزجاجة التي وضعت فيها منذ الصغر كل أحلامها، الصغير منها والكبير..

اعتادت أن تتخلى عن كل رأي ورؤية وراية تؤمن بها وتدافع عمّا ترمز إليه.

كسرة تلو خيبة.. وغصة بعد انشراح.. وألم بعد ارتياح.. كان ذلك المسار الذي تؤول إليه ظنونها الحسنة.

لأجل هذا أصبح فعل روتيني صغير كفتح صندوق البريد أمراً جللاً.. حدثاً.. رهاناً.

لم يكن الصندوق فقط هو ما قد يخذلها.. بل حتى أمر بسيط كنسمة هواء تأتي باردة.. أبرد مما تحتمل.. أبرد من قدرتها على بعث الدفء بنفسها لنفسها.. بفرك يديها، بضم ذراعيها، بغلق منافذ الهواء وبعدم الخروج إليه.

رغم تفاؤلها الشديد إلا أن أحلامها الشاهقة لطالما أدت بها إلى الارتطام على الصخر.. جروح وخدوش.. رضوض عاطفية.. وخيبات لا تُحصى.

صدمتها الأولى كانت عند دخول الجامعة.. صديقتها الأقرب في هذه الدنيا كانت رنيم. منذ عامها السادس وهي رفيقة دربها في المدرسة والعائلة.. كانت من هذا النوع من الأصدقاء الذي يعرف قصصك الصغيرة داخل مُحيط الأسرة ودائرة أصدقاء المدرسة.. قريبتها.. صديقتها.. معها في كل صفوف الدراسة من الصف الأول الابتدائي حتى الثانوية … تجد وجهها في مجلدات الصور مشاركاً في كل ذكرى.

كانت رنيم أول من كَتَب لها في دفتر الذكريات وأهدى لها هدية عيد ميلاد.. أول من شاركها سراً وأطلق لقصصها سمعاً. اختارت رنيم طب الأسنان مجالاً لها فاكتفت بصديقات التخصصات الطبية وتحججت بالانشغال. كلما بادرت ريما بمكالمتها هاتفياً لا ترد ولا تعيد الاتصال. وحين تبادر برسالة لدعوتها إلى كوب قهوة ردت بتباطؤ بعد ساعات أو في اليوم التالي أنها مشغولة.. ما إن بدأت عامها الدراسي الثالث، تزوجت زميل الدراسة فابتعدت عنها أكثر وافترقتا.. كانت ريما الوحيدة من الصديقات التي لم تكن تُدعى لأي اجتماع أو حفلة عدا الزفاف، بحجة أن كل ما سبقه من الاحتفالات صغير، وكأنه لم يحدث من الأساس، أو أنه احتفال خاص بصديقات الجامعة، أو شيء عائلي يخص أسرتها وأسرة زوجها....

صديقات المدرسة حُصِر التواصل معهن في رسائل جافة النص ومعَلَّبة للتهنئة برمضان والعيدين.. بدت قلوبهن صَدِئة لا تليق بها مكاناً ولا بقلبها الذي يريد ما هو دائم ونقي.. فرحلت هي عنهن كما تغيّرن ورحلن.

في كل المعادلات هي دائماً تنتصر لقلبها.. ترحل به بعيداً عن كل شيء وتكتفي بنبضه. تصم أذنيها عن معايير الآخرين التي ترى أنها منخفضة وواقعهم الرديء وشبه الزائف.. كل ما لا يشبهك، كل ما تفعله مبرمجاً هو زائف وإن كان بنية حسنة كمحاولة أن تكون فرداً مرناً ومنسجماً مع نسيج مجتمعك..

أَدْخَلَت المفتاح في ثقب الصندوق الصدئ.. سَحَبَت الباب الحديد وقبل أن تتصاعد نبضات قلبها تَرقُّباً لما قد تجده في داخله، لم يكن هناك ما يُرى سوى الفراغ.. الفراغ الذي طابق كل الفراغات المستفزة في حياتها والتي لا يَكسر حدة وحشتها شيء إلا الدعاء الذي تدعوه في كل ليلة قبل أن تنام...

تدخُل المنزل متجهة نحو غرفتها، تفتح دولاب ملابسها، وتلقي في داخله حقيبتها الصغيرة.. تلك بداية روتين الوصول إلى المنزل.. كم تمنَّت أن تجد في الصندوق شيئاً يُشغلها به.. يأسرها ولو لدقائق حتى يُنعش فيها شغف التساؤل وحس البهجة.

****

• وبس، اليوم اللي رحت فيه على أساس أسوي المقابلة الوظيفية في البنك، جاتني رسالة من السكرتيرة تقول إني انقبلت ودوامي يبدأ السبت.

– بالله عليك؟ ألف ألف مبروك والله فرحت لك. شفتي الصبر كيف؟ بعد تسعة شهور روحة ورجعة بدون راتب ولا عقد ولا وعد منهم جاتك الوظيفة. قايلتلك اصبري.

بعد عام من هذا الحوار مع صديقتها عبير، بدأت فرحة استلامها الوظيفة بالتبخر وأخذت طينة السؤال تتشكل في قلبها..

{وظيفتي لا تعبر عني، لا تُنَمِّي شغفي، أكرهها، تزعجني، تلتهم يومي بغطرسة وتتركني أُصاحِب الملل أثناء ساعات العمل وحدي.. أين أذهب؟ وماذا أفعل تجاه هذه الحقيقة؟}.

تحب ريما قراءة الروايات باللُّغة التي كُتبت بها لا المترجمة، تعشق الرسم بالقلم الجاف أكثر من أي قلم آخر لأن احتكاكه على الورق يُخرِج منها إبداعاً يُرضيها. يُريحها الجلوس على البحر لساعات وجمع الأحجار ذات الأسطح الملساء والألوان الداكنة ومن ثم رميها في البحر كلها. تحب كل شيء تستطيع ممارسته وحدها لأنها تكتفي بنفسها فقط لإسعادها.

تبنَّت هذه القناعة منذ أن كان عمرها خمسة أعوام حين وجدت أن أختها نوف التي تكبرها بسبعة أعوام تحب اللعب مع البنات اللواتي يقاربنها عمراً، وغالباً ما تلعب فقط مع ابنة خالها مايا.. كلما اقتربت ريما بألوانها ودفاترها وألعابها لتفرشها على الأرض فقط لتستمتع بوجودهما في نفس الغرفة وإن لم يشاركاها اللعب، صرختا وطالبتاها بعدم الانضمام إليهما، بحُجَّة أنها صغيرة وستنقل ما تسمعه منهما إلى الكبار.. قسوة أن تُصَنَّف وتحاط بافتراضات لا تعنيك ولا تشبهك منذ صغر سنّك.

في مرحلة أخرى، أصبح لديها أخ.. يصغرها ياسر بستة أعوام. كانت تحاول أن تَخلُق منه صديقاً ولكن عاد شبح الفجوة العمرية منتصراً يكرر جُرمه في حياتها ويتركها بلا صديق في بيت أسرتها وجدتها.

تجتمع العائلة في بيت جدتها نورة كل خميس. لجدتها بنت وابن.. إيمان أم ريما، وأحمد خالها الوحيد... يأتي خالها وزوجته هيفاء يصحبهما ابناهما مشعل ومايا. مشعل هو الحفيد الأكبر لجدتها. في كل أسبوع، يُسَلِّم على الجميع، يتحدث إليهم عن أي موضوع يطرحونه مُبدياً رأيه بلطف أو يصمت. يتناول معهم وجبة الغداء، ومن ثم يجلس في زاوية من غرفة الجلوس لينغمس في كتاب. أما مايا التي تكبر نوف بستة أشهر فكانت تُسَلِّم على أفراد العائلة بسرعة ومن ثم تركض بشعرها المفرود، وأكسسواراتها البلاستيكية الملونة، وحقيبتها الصغيرة نحو غرفة جانبية لتشارك نوف اللعب وحكايات الأسبوع بعيداً عن عيني ريما.

سواء كنت طفلاً أو بالغاً، يُخزِّن الأطفال في قلوبهم مواقفك معهم.. تستهتر بذاكرتهم وعقولهم وتتجرد أمامهم بأنانيتك، أو تبرز بحنانك واحترامك لكيانهم الصغير.. فيكبرون وقد خُتِم في وجدانهم انطباع عنك يبقى إلى الأبد. إما ود مطلق أو ذنب لا يُغفر!

رغم أن مشعل هو الحفيد الأكبر والذي له المكانة المتفردة أن يستصغر أحفاد جدة نورة كلهم، فإنه الوحيد الذي كان يُرَحِّب بها وبكل ما تحمله معها؛ صندوق الصلصال البلاستيكي الأصفر، الألوان الخشبية، ودفترها الصغير.

يُرَحِّب بها في كل مرَّة، يُلقي كتابه جانباً، يبتسم ويخاطبها:

– رمرومة كيف حالك؟

يستأذنها بفتح الصندوق الثمين.. وبحنان الكبار الممزوج بهيبتهم يفتح قفله الملتوي ويشاطرها فرد أسطوانات الصلصال وتشكيلها.

كبرت ريما وما زال بداخلها شغف خلق الأشياء لا تَلَقِّيها. ليست المتعة في دمج العناصر وابتكار فنٍّ من فراغ صامت فحسب بل تلك اللحظة السحرية التي تُلْهَم فيها بفكرة وتقرر اتباع حدسك. تشعرها لحظة القرار تلك بالقوة! بالقدرة! بأن للقلب أحياناً مسافة صمت وتأمل بين النبضات لا تُخطئ...

خلال أشهر ستُكمِل ريما عامها السابع في العمل. مهووسة هي بالتواريخ والأرقام.. وبالنظريات المرتبطة بها وإن لم تكن مُثبَتة علمياً... وإن كانت مجرد نظريات. نظرية السبعة أعوام.. المُنْعَطَف الذي يضيق به الصدر حتى تثور النفس لاتخاذ طريق آخر.. كل سبعة أعوام تكتمل الدائرة وترسو على شاطئ جديد.. تتغير خلايا الجسد.. تتسع ساحات الفكر.. تتشكل معايير وقناعات جديدة.. لأن كل شيء اختلف…

لم تعد تشعر وتفكر كما كانت.. توثقت علاقتها برنيم في عامها السابع.. توترت في الرابع عشر.. وانقطعت في الحادي والعشرين.. فرضية السبعة أعوام.. ربما ليست صائبة لكنها حتماً دقيقة في دورات عمر ريما.. حسبما تعتقد.. حسبما تريد أن تعتقد لأنها تريد أن تؤمن بشيء ثابت.. أي شيء آمن لا يتغير عليها ولا تتغير عليه.. تُنْشِئ منه قاعدة.. تُعمِّمها على كل جوانب حياتها.. وتبني عليها كل مشاريعه..

نظرية السبعة أعوام هي مجرد فرضية قرأت عنها مقالاً وآمنت بها فقط لترى نفسها تبصر النور بعد كل مرحلة.. وتعيد تقييم كل ما سبق ومسح وتعدّل وحذف، وإضافة كل ما يمنحها فرصة أن تبدأ من جديد كلما أرادت أن تستنشق هواءً نظيفاً يعيد إلى رئتيها الأمل بأنها تعيش حياتها بأجمل صورة تستطيع أن تعيشها.. كلما اقتربت من هذا التاريخ.. اليوم الذي وَقَّعَت فيه عقد العمل وذهبت فيه للمرة الأولى إلى المكتب قبل سبعة أعوام، كلما خَفُت صوت قلبها واتسعت مسافة الصمت ورقعة العجز بين نبضاته..

تقول النظرية إن السنة الأولى هي الأصعب فهي مرحلة التأقلم مع الواقع الجديد.. نبدأ في التسامح مع جانب وعدم التنازل في جوانب أخرى. تمر بعدها السنون بشكل طبيعي، تصاعدي في حالة الانسجام، ومنخسف نحو أدنى طبقات الأرض في عكسه.. حتى يأتي العام الذهبي السابع.. المنعطف الذي تنفجر فيه في أي لحظة لتعيد تثبيت أوتادك في هذا الواقع أو هدمه والثوران عليه والاتجاه نحو مرفأ آخر.

back to top