مأساة إغريقية على أرض عربية

نشر في 05-05-2017
آخر تحديث 05-05-2017 | 00:14
 عبداللطيف المناوي يبدو الجسد العربي وكأنه اختزل إلى "كعب أخيل"، أو لم يبق من الجسد سوى الكعب الذي يضرب به المثل دائما بالضعف، ومنه وبسببه سقط البطل "أخيل".

سيظل الأدب الإغريقي أحد المناهل المهمة في تاريخ الإنسانية، وسيظل ملهماً للعديد من الإبداعات، كما أن العديد من قصصه ستظل صالحة لوصف حالة نعيشها في أي زمن، تلك الحكايات الجميلة الشيقة في أساطير الحب والجمال عند الإغريق مثلا، أو تلك الملاحم العظيمة مثل الأوديسة والإلياذة اللتين ترجمهما دريني خشبة، هذه الكتابات ما زالت حاضرة، وتلك القصص ما زالت تستحضر في مواقف للأمم والأشخاص.

تحدث هوميروس في أسطورته الخالدة "الإلياذة" عن ذلك البطل الأسطوري أخيل، البطل الذي لا يقهر بسبب قوته الخارقة، لأن أمه أمسكته من قدمه، وغمرته في نهر الخلود، مما أعطى جسمه قوة خارقة، لكنها خشيت عليه من الغرق فأخرجته بسرعة قبل أن يلمس الماء كعبه، ليصبح نقطة ضعفه الوحيدة، ومنها قتل، وهكذا بات كعب أخيل مضرب المثل حول نقطة الضعف القاتلة لأي شخص وأي مجتمع.

أعود لأتحدث عن الجسد العربي بمجتمعاته التي ظللنا نحلم دوماً، بقوتها وخلودها وقدرتها على التحدي، ولكننا استسلمنا بأيدينا وبرغبتنا "المستقلة"، في أن نترك الكعب ليسيطر على الجسد، حتى كاد الجسد أن يتحور كعباً.

أستحضر هذه القصة بمناسبة ذلك الذي نشهده في مجتمعاتنا العربية، داخلها وبين بعضها، حيث نجد مجتمعاً قرر باختياره ومحض إرادته، أن يحول أحد العناصر الذي كان من الممكن أن يكون عنصر قوة، ليتحول إلى عنصر ضعف، وأقصد بذلك الاختلاف بين عناصر المجتمع، عندما يتكون المجتمع من أكثر من عرق أو أكثر من ديانة، أو أكثر من مذهب أو ملة، إذ يمكن لهذه الاختلافات في المفهوم الإنساني العام، أن تكون أحد مصادر القوة للمجتمع، وذلك لتنوع المصادر الحضارية والثقافية في بنية هذا المجتمع، يمكن لنا أن نكون كذلك، ويمكن لنا أن نكون عكس ذلك، وباستقلال وإرادة حرة، اخترنا أن نكون عكس ذلك، والشواهد كثيرة في مجتمعاتنا العربية، ليس آخرها ما يحدث في العراق أو سورية أو اليمن، وطبول الحرب التي تستدعي الخلاف المذهبي والديني والطائفي وقوداً لهذه الحرب، نتحدث عن أقباط ومسلمين، عن شيعة وسنة، عن عرب وأفارقة، لتتحول هذه الاختلافات الصحية، أو التي ينبغي أن تكون كذلك، إلى خناجر يحملها الآخرون ليهددوا بها الوطن.

كثيرة هي نقاط القوة المفترضة في أجسادنا العربية، ولكنها جميعاً، أو معظمها، حولناها إلى نقاط ضعف، تعددنا كدول تملك ثقافة واحدة وحدودا مشتركة ولغة واحدة، حولناها إلى نقطة ضعف كبيرة، عندما أفردنا كلا في طريقه لينقذ نفسه، واهماً، بالتفاوض مع الآخر، ظناً منه، واهماً أيضاً، بأنه سيكون ذا مكانة أكثر خصوصية، أو أولى بالرعاية، كما هي لغة الاقتصاد والسياسة، ولكنه لا يعلم أنه بذلك أضعف الآخرين، بل أضعف نفسه.

وهكذا تتحول نقطة القوة في الجسد وتتحور إلى امتداد لكعب أخيل، نقرر أن نبحث عمن في الخارج لنستأسد به على إخواننا في الداخل، نعتقد أن خلاصنا من مشكلاتنا لن يكون إلا باستحضار قوة هي ليست قوتنا الحقيقية، ولكنها قوة مستمدة من آخرين، ونعتقد أننا إن حققنا أهدافنا قصيرة النظر، فإننا بذلك نكون قد حققنا نصراً، مع أننا بهذا نكون قد سجلنا خطوة متراجعة، ومتنازلة عن عناصر قوتنا الحقيقية.

لا أملك كمواطن في مجتمع عربي لا يملك من الأمر شيئاً، إلا أن يقول ما يراه، ويحاول أن يعبر عن مخاوف حقيقية يستشعرها، إلا أن أشير إلى ما أستشعر ويستشعره غيري، ممن لا يملكون من الأمر شيئاً، من الخطر الذي ندفع أنفسنا إليه، لن ينتصر الخارج لأي منا على حساب طرف آخر، الوحيد المنتصر هو ذلك المستدعى من بعضنا، ولن يستثنى أي منا من دفع ثمن ذلك التنازل المستمر، فلن ينتصر أهل دارفور إن حققوا أهدافاً عبر ضغوط الخارج، وليس نصراً للشيعة أن يحققوا بعضاً مما يهدفون إليه ويعتقدونه حقاً لهم، وليس نجاحا للسنّة أن يسودوا على الآخرين، إن تم ذلك عبر بوابة خارجية، ولن يكون إنجازا مهماً لأي دولة عربية، إن حققت إنجازاً منفصلا لها على حساب غيرها من الدول العربية، أو منفردة بقرارها ظناً أنها بذلك تحقق ما لا يمكنها تحقيقه مع الآخرين.

ما فات ليس كلاماً محفوظاً وردياً، وليس "أكليشيهات"، ولكنه تعبير عن مخاوف حقيقية من أن يتحول ونتحول جميعاً إلى مأساة إغريقية جديدة، تقرأ قصتها أجيال قادمة، بعد زمن طويل لتتعظ بمن لم يتعظ بمآسي من قبله.

back to top