أطفال العراق... حياتهم بعد «الدولة الإسلامية»

نشر في 26-04-2017
آخر تحديث 26-04-2017 | 00:00
طوال سنتين، كان تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) يسيطر على الموصل كلها، بما في ذلك مدارسها. الآن وقد نجح الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة في طرد الإسلاميين، يواجه المعلّمون في هذه المدينة معضلة صعبة: كيف يمكن تغيير عقلية الأولاد الذين تعلّموا أن يحاربوا ويقتلوا؟

وقف عشرون ولداً بين المنازل المقصوفة والسيارات المحروقة أمام مدرسة ابتدائية في شرق الموصل. حين يسألهم الناس عمّا تعلّموه داخل تلك المدرسة، يقولون إنهم تعلّموا القتل. كان معلّمهم ينتمي إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي كان يملك معقلاً هناك. يصرخ الأولاد «داعش، داعش» بأصوات قوية وكأنّ صوتهم يخفي سراً هائلاً.

يتراوح عمر الأولاد بين 6 و13 سنة. كانت حقائبهم كبيرة جداً وكانوا ينتعلون الصنادل ويرتدون قمصاناً قطنية مثقوبة. بعضهم وصل الى المدرسة بعدما تناول فطوراً من البيض في حين لم يكتب لبعضهم الآخر وضع اي لقمة في الفم. وبينما كان الأولاد ينتظرون أن تُفتَح البوابة، راحوا يصرخون ويضحكون. بدت سعادتهم حقيقية. لكن عند النظر في أعماقهم، تسهل ملاحظة آثار الحرب على وجوههم الصغيرة وفي ملامحهم القاسية.

غزا تنظيم «الدولة الإسلامية» الموصل في يونيو 2014. حين حاول إنشاء دولة هناك، لم يكتفِ بالاستيلاء على الأراضي والناس وبفرض عقيدته ورفع علمه، بل تسلل إلى كل جانب من الحياة الاجتماعية، فسيطر على الاقتصاد وتحكّم بالقضاء ووضع منهجاً تعليمياً يناسب رؤيته. أراد «الدولة الإسلامية» أن ينشئ رؤية عالمية وهذا ما دفعه إلى الاستيلاء على مدارس الموصل أيضاً.

حررت القوات المسلحة العراقية شرق الموصل قبل بضعة أسابيع. منذ ذلك الحين، عاد 20 ألف ولد تقريباً إلى المدارس. رغم المخاطر التي تطرحها الغارات الجوية بالطائرات بلا طيار والانتحاريون القادمون إلى نهر دجلة من الجزء الغربي المتنازع عليه، فتحت 70 مدرسة من أصل 400 أبوابها في شرق الموصل مجدداً. يُفترض أن يعود الوضع إلى سابق عهده في صفوفها. لكن هل هذا ممكن؟ ما الذي اختبره الطلاب هناك في عهد «الدولة الإسلامية»؟

«شبيغل» سلطت الضوء على الموضوع.

يقول عبدل (10 أعوام): «في كتاب الرياضيات الذي درسنا فيه، كنا نشاهد شاحنة مليئة بالأسلحة وكان رجل من «الدولة الإسلامية» يجلس فوقها». باشا (13 عاماً): «كنا نجلس بكل بساطة ولا نقوم بأي شيء. أحياناً كان أحدهم يسألنا: من الأفضل؟ الجيش العراقي أم «الدولة الإسلامية»؟ كنا نصرخ بأعلى صوت: «الدولة الإسلامية»! أمير (9 أعوام): «عمد الرجال إلى إخفاء الحيوانات من كتب علم الأحياء. لم نعد نشاهد أي أسود فيها. اقتصر الدرس على «الدولة الإسلامية»». حسن (12 عاماً): «رموا ولداً من مكان مرتفع وضربوا عمّي بقنينة مكسورة إلى أن شقّوا معدته». قيصر (13 عاماً): علّمونا أن نقتل. كنا نتدرب على دمية. كانت الدمية أكبر حجماً مني وترتدي ملابس عسكرية».

حيّ يحكمه الخوف

إنها الساعة الثامنة. صَفَر المعلّم فركض الأولاد ودخلوا إلى مدرسة بن مروان. كانت الثقوب التي خلّفها الرصاص تملأ واجهتها. إذا نظر أي شخص من الأعلى إلى الأسفل، سيلاحظ حجم الدمار الناجم عن الغارات الجوية التي أطلقها الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة في الشوارع المحيطة بالمدرسة. في الشهر الماضي، عمد مناصرو «الدولة الإسلامية» إلى قطع رؤوس أربعة أشخاص أمام المدرسة وراحت رؤوسهم تتدحرج أمام أنظار الأولاد. اليوم تحمل النساء المحجبات الماء إلى منازلهن ويبيع صبيّ السكر فيما يلعب أولاد آخرون كرة القدم في أرض قاحلة قد تكون مزروعة بالألغام. يتحرك الناس بحذر وعلى ملامحهم علامات الشك والريبة. لا يعرف أي شخص ما يفكر به جيرانه أو عدد مناصري «الدولة الإسلامية» الذين يختبئون في المنازل من دون التعرّف عليهم. ربما أصبحت الحرب في شرق الموصل صامتة لكنها مستمرة.

طوال 18 شهراً، حاولت «الدولة الإسلامية» غسل عقول الأولاد في مدرسة بن مروان. كان نظامها يشمل خمس سنوات من التعليم الابتدائي ثم أربع سنوات من التعليم المتوسط. قرر «ديوان التعليم» التابع لها ما يجب أن يُعلّمه عشرات آلاف المعلمين في الموصل. بالإضافة إلى تعليم الأولاد عقيدة التنظيم في الصفوف، كانت «الدولة الإسلامية» تجلبهم إلى المساجد وتجمعهم في الشوارع كي تعرض أمامهم فيديوهات عن عمليات قطع الرؤوس.

يقول مدير المدرسة شاكر أحمد (52 عاماً): «كانت مدرستي أشبه بالبذرة التي ستنمو منها مظاهر جنون العظمة». شارك أحمد في الحرب الإيرانية العراقية ثم أصبح معلّماً طوال 25 سنة. كان يجلس وراء مكتبه في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة. جلس أربعة معلّمين حوله على كنبات جديدة. يقول أحمد: «لقد أحرقنا الكنبات القديمة في المنزل كي نتدفأ في الشتاء. أحرقنا أيضاً أحذيتنا وكتبنا».

لكن كيف أصبحت حياتهم الآن بعد رحيل «الدولة الإسلامية»؟

يجيب مدير المدرسة: «في عهد «الدولة الإسلامية»، كانت المدرسة تشمل حوالى مئة تلميذ. كان معظمهم يلازم المنزل». أما اليوم، فيأتون جميعاً إلى المدرسة دفعةً واحدة. سجّل أحمد 800 تلميذ وقسّمهم إلى دفعات. لا يأتي معظمهم إلا مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. أرسلت له منظمة «اليونيسف» الدفاتر ومواداً مدرسية مختلفة: «الحمدلله، نحن محظوظون. لكن تبقى هذه المساعدات غير كافية».

قال أحد المعلّمين: «طوال سنتين، لم نكن نحصل على رواتبنا من بغداد». أوقفت الحكومة العراقية دفع الرواتب إلى موظفي القطاع العام في المناطق المحتلة لأنها افترضت أن تلك الأموال ستصل في نهاية المطاف إلى «الدولة الإسلامية». أضاف معلّم آخر: «لقد عملنا في عهد «الدولة الإسلامية» لأننا كنا خائفين. اليوم نعمل على أمل أن يتحسن الوضع مستقبلاً».

مرّت ثلاثة أشهر تقريباً منذ أن فتح شاكر أحمد مدرسته مجدداً. حين سُئل المدير عمّا فعلوه بعد رحيل «الدولة الإسلامية» رسمياً، قال إنهم راحوا ينشدون الأغاني للمرة الأولى منذ وقت طويل.

أضاف أحمد فيما كانت أصوات الحرب مسموعة في الجوار: «يمكننا أن ندخن ونسمع الموسيقى ونستعمل الهواتف مجدداً». في ذلك اليوم، مات عشرات الأشخاص من جراء قذائف الهاون التي أطلقها تنظيم «الدولة الإسلامية» بالقرب من السوق في وسط المدينة وقد خلّف الاعتداء ثقباً عميقاً في الإسفلت. في المنطقة الغربية التي لا تزال تحت سيطرة أتباع «الدولة الإسلامية»، يُستعمَل آلاف السكان كدروع بشرية.

تغيير المنهج الدراسي

توقّع شاكر أحمد وصول رجال «الدولة الإسلامية» بعدما اجتاحوا الموصل في صيف عام 2014. كان يلازم منزله حينها لأن المدرسة أقفلت أبوابها في فترة العطلة. في النهاية جاء ثلاثة منهم.

عرّف شخصان من أتباع «الدولة الإسلامية» عن نفسَيهما، أحدهما مصري والآخر أردني. زعما أنهما ينتميان إلى «وزارة التعليم الخاصة بالدولة الإسلامية» التي تقع بحسب الادعاءات في الرقة، معقل الإرهابيين في سورية. رافقهما المشرف المستقبلي على 30 مدرسة في المنطقة التي يقيم فيها أحمد في الموصل. أبلغ رجال «الدولة الإسلامية» المدير بأنهم يتّكلون على تعاونه معهم. كان من المنتظر أن يعود المعلّمون إلى المدرسة.

بعدما تجوّل رجال «الدولة الإسلامية» في المكان، وصل المشرف التابع لهم إلى مدرسة بن مروان. بدا شخصاً ودوداً وكان يُعرَف باسم «أبو زينب». قال لهم: «يمكنكم أن تتابعوا العمل تحت إشرافنا». في المدينة، وزّع عناصر «الدولة الإسلامية» الخبز والبنزين على الفقراء وقدّموا ساعات للأولاد في المساجد. لم يشتبه أحد بوجود مشكلة في البداية ولم يتغير أسلوبهم قبل مرور شهرين أو ثلاثة أشهر.

في أحد الأيام، حضر أبو زينب إلى المدرسة وهو يحمل سيفاً. فأمر جميع المعلمين بالجلوس على الكراسي ووضع السيف في الوسط. ثم جلس وشبك ساقيه وبدأ يتلو آيات من القرآن وتحدّث عن أهمية «الدولة الإسلامية» بالنسبة إلى الإسلام واعتبر أنها مسؤولة عن التصدي للغرب.

قال أيضاً إن المعلمين يحتلون أهمية كبرى في «دولة الخلافة». وفق بعض الادعاءات، قال إنهم سيغيرون المناهج الدراسية والكتب لأن الكتب القديمة مليئة بمظاهر الكفر وسيتلقى المعلمون تدريباً إضافياً و«كل من يرفض هذه الأوامر سيموت!»

دعا رجال «الدولة الإسلامية» المعلمين إلى حرق الكتب القديمة. كانت تلك الكتب مليئة بالقصائد والأغاني وبقصصٍ عن عجائب العراق، منها «ملحمة جلجامش» التي تُعتبر من أقدم الأعمال الأدبية الكلاسيكية الصامدة. لكنهم حرقوا تلك المؤلفات كلها.

يقول أحمد إن التلاميذ في مدرسته حصلوا على كتيبات جديدة ورفيعة طُبعت في مصنع للورق في الموصل. لكن تدّعي تقارير أخرى صادرة من الموصل أن رجال «الدولة الإسلامية» وزعوا أقراصاً مدمجة للتلاميذ كي يتمكنوا من طبع محتوياتها على حسابهم.

غيّرت «الدولة الإسلامية» المعلومات الجغرافية في الكتب، فحذفت الحدود الواقعة بين سورية والعراق وجمعت الأعداد السكانية كي توحي بقيام إمبراطورية عظيمة. كما أنها وصفت الأكراد والشيعة بالمجموعات التي تعارض الإسلام واعتبرتهم بمصاف «الكفار» الذين يستحقون القتل.

استبدلت «الدولة الإسلامية» كتب التاريخ بسِيَر عن كبار شخصياتها. يتذكر المدير ما حصل قائلاً: «تلقينا سِيَر أبو بكر البغدادي أو النبي محمد». بشكل عام، كثرت دروس الأدب الديني التي ترتكز جزئياً على كتابات تعود إلى القرن الثالث عشر. حتى أن بعض المعلمين لم يفهموا آيات القرآن التي يُفترض أن يحفظها الجميع عن ظهر قلب. لكنهم كانوا مرعوبين واضطروا لتنفيذ الأوامر.

على صعيد آخر، اختفى التفاح والإجاص اللذان كانا يُستعملان لتعليم الجمع والطرح من كتب الرياضيات واستُبدلا بالدبابات والقذائف. حتى أنّ رمز الجمع (+) استُبدل بالحرف «z» لأنه يشبه إلى حد كبير الصليب المسيحي.

كان يجب أن يحتسب التلاميذ عدد القنابل التي يستطيع مصنع «الدولة الإسلامية» إنتاجها خلال فترة معيّنة. في صف اللغة الإنكليزية، تعلّق أحد المواضيع بالسؤال التالي: «كيف أسأل شخصاً إذا كان يستطيع تنظيف سلاحي»؟ أما صفوف الفن والموسيقى، فقد أُلغِيت بالكامل لأنها لم تكن تفيد الجهاد. إلى جانب التعاليم الدينية، كان الأولاد يحاربون في حصص التدريب العسكري.

خلال الحصص، كان يجب أن يرتدي المعلّمون سراويلهم ويكشفوا عن كاحلهم ويثبّتوا جواربهم بأربطة مطاطية. أما المعلّمات، فقد طُلب منهن أن يغطين أنفسهن بالكامل. برزت قواعد أخرى أيضاً: لا لمستحضرات التجميل والعطور والهواتف الخليوية والسجائر! فصل التنظيم بين الفتيان والفتيات ولم يكن المعلّمون والمعلمات يستطيعون أن يلتقوا في أي ظرف من الظروف.

قال المدير بهدوء: «اتهموا المدير الذي سبقني بالجلوس بالقرب من امرأة في المدرسة ثم قتله رجال «الدولة الإسلامية». لم أحصل على الترقية إلا بعد وقوع تلك الحادثة». كان أي أب يجلب فتاة إلى مدرسة الفتيان عن طريق الخطأ يُقتَل. هكذا أنشأ التنظيم حكماً مبنياً على ترهيب المعلّمين وإيقاعهم في الأفخاخ.

أضاف المدير: «كان يجب أن نفكر مثلهم طوال الوقت. سرعان ما اعتدنا على هذه الأجواء لكن في الوقت نفسه أصابنا ذلك الوضع بالجنون». لإنقاذ عدد صغير من الكتب القديمة على الأقل، عمد أستاذ إلى إخفائها في منزله بالقرب من مدفأة. لو شاهدها أحد عناصر «الدولة الإسلامية»، كان ليفترض حينها أنها تُستعمَل للتدفئة.

دمجت «الدولة الإسلامية» بين عدد من المدارس في الموصل لأن مئات الأهالي أخرجوا أولادهم منها وما عادوا يسمحون لهم بارتيادها. لكن كان التعليم المنزلي يُعتبر «محرّماً» أو ممنوعاً. سرعان ما زادت سخافة القواعد المفروضة في مدرسة بن مروان. يقول أحد المعلمين: «أحياناً كنا نرغب في الضحك لكن كانوا ليقتلونا فوراً».

مسؤولية كبرى

في مدخل المدرسة، بالقرب من غرفة المدير، رُسِمت صور أولاد على الجدار. ينحني أحدهم فوق كتاب لقراءته ويمسك اثنان آخران بأيدي بعضهما وكُتِب تحت الصورة عبارة «أهلاً وسهلاً» في خطوةٍ بسيطة وودودة.

حين استولت «الدولة الإسلامية» على مدرسة بن مروان، غطّت وجوه الأولاد بطلاء داكن اللون لأن رسم الوجوه محرّم بنظرها. كذلك ذهب رجال «الدولة الإسلامية» إلى الجزار الذي كان يبيع اللحوم أمام المدرسة ويسوّق لنفسه بملصق عليه صورة بقرة. فرشّوا الطلاء على صورة البقرة وأخبروا الرجل بأن الله وحده قادر على خلق الكائنات.

انتهت تلك المرحلة الآن. يقول المدير: «يتوقف مصير هذا البلد علينا نحن المعلّمون». لكنه لم يحدد بعد طريقة تنفيذ هذا المشروع ويعترف بأنه يشعر بالقلق من الوضع القائم: «حين يلعب الأولاد خلال الاستراحة، يختارون ألعاب الشرطة و»الدولة الإسلامية» ويتبادلون إطلاق النار». يفضّل شاكر أحمد أن ينسى الماضي بكل بساطة.

لم يضع أي خطة بعد لتجاوز الأحداث السابقة ولا يفهم حقيقة الصدمات الراسخة لكنه يتكل على قلبه وبصيرته وحكمته: «الأولاد يشبهون عجينة الخبز، لذا يمكن أن نعيد تشكيلهم. هم يتعلّمون بسرعة لكنهم ينسون أيضاً».

درس محمد أسيل المسرح في السابق وها هو يُعلّم اللغة العربية اليوم. طلب من تلاميذه أن يكتبوا كلمات جديدة (فرخ، تفاحة، إجاصة) ثم تحقّق من صحتها.

أسيل رجل متزوج عمره 29 عاماً، عيناه بنّيتان ولديه ثلاث بنات. يبلغ راتبه الشهري ما يساوي 160 يورو لكنه يقول: «بما أن الحكومة لا تدفع راتبي، ما زلتُ أعمل في كشك خاص بي في فترة المساء».

يقول إن مرحلة حكم «الدولة الإسلامية» كانت الأقسى في حياته: «أصبحت الحياة مكلفة جداً لدرجة أنني قررتُ أن أعلّم كي أعيل عائلتي. لكن لم تكن «الدولة الإسلامية» تدفع الرواتب». مع ذلك كان البقاء في المنزل خياراً خطيراً جداً. وُلد أسيل في الموصل وتعرّض للتعذيب مرتين: أولاً على يد الجهاز السري العراقي بعد سقوط صدام حسين لأنهم شبّهوه بقاتل، ثم على يد «الدولة الإسلامية» لأنه التقط صور سلفي حين كان يسبح في النهر نصف عاري. لا يعرف أسيل معنى الحياة بلا عنف.

يقول أسيل إنهم لم يتكلموا يوماً مع الأولاد عن «الدولة الإسلامية» لأن آباء معظم الأولاد كانوا من أتباع التنظيم: «لم نكن نستطيع أن نعرف ما يُقال في المنازل. يجب أن نتابع توخي الحذر اليوم لأن «الدولة الإسلامية» لم تُهزَم إلا عسكرياً».

لا تزال زميلة أسيل، إخلاص حمدي، المرأة الوحيدة التي تعمل في المدرسة، ترتدي النقاب. يمزح معها أسيل ويقول لها: «توحين بأنك تنتمين إلى «الدولة الإسلامية»».

فتجيبه حمدي: «الهواء هنا مليء بالغبار»! ثم تقول لاحقاً: «أنا خائفة. لكن لا بأس بذلك. الأولاد معتادون على النقاب».

يقول أسيل إن أحد التلاميذ الذين يعرفهم يبلل سريره. جاء إليه والداه وطلبوا منه أن يتكلم مع ابنهما: «أخبرتُه بضرورة أن يستعمل المرحاض مثل جميع الناس».

ثم نظر إلى الأرض لفترة طويلة وكأنه شريك في إرث «الدولة الإسلامية». لكنه هرب من القتال في الموصل وسط وابل من الرصاص مع زوجته وابنتيه. خسرا ابنتهما الثالثة ولم يعرفا مكانها حتى هذه الأمسية.

أوضح أسيل: «أحاول أن أكون قدوة للأولاد. نحن لا نتكلم عن الماضي لكني أقرأ لهم القصص التي يحتاجون إليها في حياتهم». يخبرهم مثلاً قصة الصياد والعصفور: يلاحق الصياد عصفوراً في أنحاء الغابة. يختبئ العصفور ويسخر من الصياد. لا يلاحظ الصياد العصفور إلا عندما يشتم هذا الأخير بصوت مرتفع فيطلق عليه النار في النهاية.

إنها قصة وحشية لكن ما هي العبرة منها؟ يجيب أسيل مبتسماً: «كل من يقول كلمات سيئة سيُعاقَب». لا يزعجه العنف في القصة لأنه يظن أن الاهتمام يُحدِث فرقاً حقيقياً بغض النظر عن مضمون الكلام.

في غرفة المعلّمين، عُلّق هرم مؤلّف من خمسة عناصر على الجدار. كُتِب في أسفله «الحاجات الأساسية» ثم «الأمن» و»الحياة الاجتماعية» ثم «الحاجات الشخصية» وصولاً إلى «تحقيق الذات» في أعلى الهرم. يقول أسيل: «في المحصّلة، تقود هذه العناصر كلها إلى حياة جيدة». لكنه ليس متأكداً على ما يبدو من اعتبار الهرم استفزازاً أو حافزاً في الموصل راهناً. مع ذلك يحافظ أسيل على تفاؤله ويقتبس الحكمة التي يتقاسمها جميع الموجودين في المدرسة: «الأولاد يشبهون عجينة الخبز، لذا يمكن أن نعيد تشكيلهم. هم يتعلمون بسرعة لكنهم ينسون أيضاً».

تدريبات على القتل

خرج قيصر الكردي من الصف. يبلغ هذا الصبي المرح 13 عاماً لكنه يبدو أصغر من عمره. في ذلك الصباح، كان من أكثر التلاميذ حيوية أثناء التكلم عن أيام «الدولة الإسلامية». في غرفة المعلمين، جلس بكل خجل على كنبة بعدما سمح له المعلمون بإجراء المقابلة على مضض. يحب قيصر فريق «ريال مدريد» ويريد أن يصبح طبيب قلب. لكن هل يريد أن يتكلم عن ما حصل هناك؟

أغلق الصبي الستائر كي لا يتمكن الأولاد الآخرون من النظر إلى الداخل ثم قال: «كان رجال «الدولة الإسلامية» يحضرون كل يوم لتعليمنا كيفية القتال. لم يشرحوا لنا شيئاً بل كنا ننفذ أوامرهم بكل بساطة». بدأ صوته يزداد حماسة ثم قفز وأشار بيده إلى المكان الذي كانوا يختبئون فيه وراء عجلات السيارات أو الجدران المصنوعة من أكياس رمل خلال التدريبات القتالية.

راح قيصر يتنقل في الغرفة الفارغة ويوجّه اللكمات نحو الأرض ويصارع الهواء ثم فصّل ما فعلوه لتعليق حزام حوله فيه قنابل بلاستيكية.

ثم استعرض طريقة المشي المناسبة وراح يتجول في أنحاء الغرفة وهو يحمل حزاماً وهمياً ثقيلاً، مثل رائد الفضاء الذي يبحث عن أرض صلبة، وراح ينقر بأصابعه في الهواء بحثاً عن الزناد الذي يفجّر الحزام.

كان رجال «الدولة الإسلامية» يعطونهم دمى بلاستيكية ترتدي ملابس عسكرية كاملة. كانت تشبه البشر الحقيقيين وأكبر حجماً من قيصر. يقول الفتى إنه اضطر لقطع الرؤوس. سرعان ما اعتاد على استعمال السكاكين ويقول إن التنظيم كان راضياً على عمله في كل مرة.

يصعب تفسير تعابير وجه قيصر، فقد عكست خليطاً من الذهول والرعب والخوف.

بعد الدرس، قدّم والد قيصر الشاي في إحدى الغرف المغطاة بالمراتب في نهاية الشارع.

يقول محمد الكردي، مسلم متديّن يرتدي الأسود ولا يصافح النساء: «كدتُ أخسر ابني بسبب «الدولة الإسلامية». في البداية، سمحتُ لقيصر بالذهاب إلى المدرسة كي يتعلم القراءة. لكننا لاحظنا بعد فترة أنهم يحاولون غسل دماغه».

بعد بضعة أشهر، يقول الأب إن قيصر بدأ يقصد المسجد. حاولوا هناك أن يقنعوه بالانضمام إلى «الدولة الإسلامية». فسألهم قيصر: «هل يمكنني أن أتخذ هذا القرار من دون إبلاغ والديّ؟». يبدو أن أحد أتباع التنظيم أجابه بالإيجاب. لكن عاد قيصر وأخبر والده في مطلق الأحوال فأدخله بذلك في صراعٍ كان يمكن أن يودي بحياته. جاء إليه أحد مناصري «الدولة الإسلامية» في مناسبات عدة وحاول أن يأخذ ابنه معه. يقول الأب: «في النهاية تصرّفتُ مثلهم. غسلتُ دماغه لكن في الاتجاه المعاكس. علّمتُه عن الإسلام الحقيقي والغفران والثقة إلى أن قرر أن يبقى في المنزل». لا أحد يعرف كيف نجح في ذلك.

يقول هذا الرجل بدوره عبارات يؤمن بها الجميع في هذا المكان. تكون تلك العبارات كفيلة بتخفيف الأعباء وتجديد الأمل: «الأولاد يشبهون عجينة الخبز. هم يتعلمون بسرعة لكنهم ينسون أيضاً».

حين عاد الأولاد إلى مدرسة بن مروان في فترة بعد الظهر، اتجه المدير إلى البوابة وصاح: «عودوا أدراجكم»! في غرب الموصل، مات 200 شخص تقريباً خلال هجوم نفذته قوات الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة. فأعلنت الحكومة الحداد الرسمي.

أخذ المدير المفاتيح وأغلق البوابة طوال ثلاثة أيام.

التعليم المنزلي كان «محرّماً» أو ممنوعاً

رجال «داعش» كانوا يعطونهم دمى بلاستيكية ترتدي ملابس عسكرية كاملة

الأولاد يشبهون عجينة الخبز لذا يمكن أن نعيد تشكيلهم... هم يتعلمون بسرعة لكنهم ينسون أيضاً
back to top