النسيان... ذاكرتنا تحت المجهر!

نشر في 24-04-2017
آخر تحديث 24-04-2017 | 00:03
No Image Caption
يعجز جميع الراشدين عن تذكّر معظم الأحداث التي عاشوها خلال مرحلة الطفولة المبكرة. أطلق سيغموند فرويد مصطلح «فقدان الذاكرة الطفولية» لوصف عدم قدرة الراشدين على تذكّر أول ثلاث أو أربع سنوات من حياتهم وغياب الذكريات الراسخة حتى عمر السابعة تقريباً. طوال قرن من الزمن، ظهرت أبحاث كثيرة عن احتمال أن تكون تلك الذكريات الأولى مخزّنة في جزء محدّد من الدماغ، ما يعني أنها تحتاج إلى محفّز معيّن لاسترجاعها. لكن يشير أحدث الأبحاث إلى أن الذكريات التي نطورها في السنوات الأولى من حياتنا تختفي بكل بساطة!
أجرى علماء النفس سلسلة من الدراسات الرامية إلى تحديد العمر الذي تتلاشى فيه تلك الذكريات. استعان الباحثون في البداية بمجموعة من الأولاد يتراوح عمرهم بين الرابعة والثالثة عشرة لوصف أولى ذكرياتهم. كان أهالي الأولاد حاضرين للتأكيد على الذكريات التي يسترجعها هؤلاء الأولاد. لوحظ أن أصغر الأطفال تمكنوا من تذكّر أحداث حصلت حين كان عمرهم سنتين.

ثم جرت مقابلة مع الأولاد أنفسهم بعد مرور سنتين. لم يتغير 90% من الذكريات التي تحدّث عنها الأولاد في عمر العاشرة وما فوق. لكن تلاشت جميع ذكريات الأولاد الأصغر سناً. حتى أنهم أنكروا الذكريات التي كانوا قد تحدثوا عنها قبل سنتين. سمحت هذه الدراسة بمراقبة ظاهرة فقدان الذاكرة الطفولية عن قرب.

تكون الذاكرة لدى الأولاد والراشدين معاً انتقائية على نحو غريب من حيث الذكريات التي تختار محوها أو الاحتفاظ بها. لفهم سبب صمود بعض الذكريات دون سواه، درس الباحثون ذكريات الأولاد مجدداً واستنتجوا أن الطفل يصبح أكثر ميلاً بثلاث مرات إلى حفظ الذكريات التي تحمل طابعاً عاطفياً مؤثراً. كما أنه يميل إلى حفظ الذكريات المفصّلة أكثر من المعلومات المتقطعة بخمس مرات. مع ذلك، لا يزول بعض الذكريات الغريبة وغير المنطقية، ما يزيد إحباط الشخص الذي يسعى إلى استكشاف ماضيه الغابر.

لتشكيل ذكريات طويلة الأمد، لا بد من وجود عوامل بيولوجية ونفسية محددة. تنشأ عناصر الذاكرة الأولية (المناظر، الأصوات، الروائح، النكهات، اللمسات) وتتسجل في أنحاء القشرة الدماغية التي تُعتبر معقلاً للمعارف. كي تصبح تلك العناصر ذكريات حقيقية، يجب أن تتحول إلى حزم متماسكة في منطقة الحصين التي تقع تحت القشرة الدماغية. لكن لا ينضج بعض أجزاء الحصين بالكامل حتى سن المراهقة، ما يُصعّب على دماغ الطفل إتمام هذه العملية كلها.

يجب أن تنشأ عمليات بيولوجية واسعة لتخزين أي ذكرى. يحصل «سباق» لترسيخ الذكريات قبل نسيانها. لكن من المعروف أن الأولاد الصغار لا يستوعبون مفهوم التسلسل الزمني. لا يستطيع الأطفال في أولى مراحل حياتهم أن يستعملوا المفردات لوصف الأحداث، ما يعني أنهم يعجزون عن ابتكار الأسباب التي تبرر نشوء الذكريات الراسخة. كما أنهم لا يشعرون بنفسهم كما يفعل الكبار بل يميلون إلى اعتبار تجاربهم جزءاً من سيناريو الحياة.

خلايا عصبية

في السنوات الأولى من حياتنا، تنشأ مجموعة هائلة من الخلايا العصبية الجديدة في منطقة الحصين. أشارت دراسة حديثة جرت على الفئران إلى أن عملية تكوين الخلايا العصبية قد تسبب النسيان عبر قطع الدوائر المرتبطة بالذكريات القائمة. قد تتشوه ذكرياتنا أيضاً بسبب الذكريات التي يحملها الآخرون عن الحدث نفسه أو بسبب تلقي معلومات جديدة.

لكن يحمل بعض الأشخاص ذكريات عن طفولتهم المبكرة أكثر من غيرهم. حين يقيم الراشدون محادثات مطوّلة مع الأولاد عن أحداث معينة ويطلبون منهم أن يضيفوا التفاصيل إلى القصة التي يخبرونها، سيساهم هذا الشكل من التفاعل في إغناء الذكرى لفترة طويلة. بهذه الطريقة، سيتعلم الطفل كيفية حفظ الذكريات وسرد القصص.

تكون أول ثلاث أو أربع سنوات من حياتنا أشبه بصفحات بيضاء مفتوحة عن حقيقة ذواتنا. خلال تلك الفترة، نتحول جميعاً من «كتلة أعصاب» إلى بشر واعين. لكن إذا كنا لا نحمل ذكريات كثيرة عن تلك المرحلة (سواء تعلقت بسوء المعاملة أو الدلال المفرط)، هل من أهمية لما حصل حينها؟ يعتبر بعض العلماء أن أولى الأحداث في حياتنا تؤثر في طريقة فهمنا نفسنا ولأشخاص الآخرين والعالم الواسع، حتى لو لم نتذكرها بوضوح. يمكن أن نفهم منذ مرحلة مبكرة مثلاً أن الناس قد يكونون لطفاء وجديرين بالثقة حتى لو لم نعرف مصدر هذا الشعور. أخيراً لا يمكن اختصار الإنسان بذكرياته وحدها بل إنه نتاج التطورات التي يخوضها بنفسه. إنها القصة التي لن ينساها البشر أبداً!

تكوين الخلايا العصبية يسبب النسيان عبر قطع الدوائر المرتبطة بالذكريات القائمة
back to top