العرّافة

نشر في 22-04-2017
آخر تحديث 22-04-2017 | 00:00
No Image Caption
اسمي سهيل العطّار من مدينة طرابلس، يعود نسبي إلى سلالة من العطّارين كان آخرهم شهاب العطّار جدّ والدي الذي حمل اسمه، كان هذا الجدّ صاحب مزاج، إضافة إلى تجارته في العطور والأقمشة، يعرف كيف يستخلص روح العطر لنساء المدينة، فكان يمزج ماء زهر الليمون وزهر الياسمين والبنفسج، ويضع هذا المزيج، مع عيدان خشب الصندل التي كان يحملها معه من الهند، في زجاجات يغلق فوهاتها بصمغ الصنوبر، ويعتّقه لمدة سنة في القبو، كأنّه نبيذ.

مما ورثه والدي عن جدي سهيل الذي أحمل اسمه بدوري، صندوق صغير من هذه العطور، يحتوي على قوارير فيروزية اللون تشبه الإجاصة، موضوعة في أكياس مخمل وتحتوي على دفتر صغير الحجم من ورق البردى، كتبت على صفحاته بخط كوفيّ، منافع هذا العطر الروحية والجسدية، مع صور للواسطي، من وحي ألف ليلة وليلة. ورثت بدوري هذا الصندوق الذي يحتوي على مائة حنجور من روح العطر، لم أسرف في تبديده، وهو في الأصل لا يصلح إلا هدية لامرأة يعشق جسدها هذا الأريج الشتوي المثير.

كانت إقاماتي في العشق طويلة لذلك بقي منه الكثير.

إذاً، حملت النسب من عطر الجد، وحملت من والدي المكتبجي خصال تصفّح الكتب التي قادتني إلى هذا الشقاء الجميل، كما يصفه نديمي عادل الشوّال مؤرّخ الأندلس وفلسطين. لا أحسد عادل على هذا الانتساب لخسارتين، لكنني أحبّه كأنّه توأمي مع اختلاف طفيف في مسائل فكرية، لا تغيّر شيئاً في مجرى الزمان.

أمّا اسمي سهيل، فجعلني نائياً ووحيداً. عشت وحشتين ضاريتين، الأولى بعد مقتل سلمى زوجتي في الحرب الأهلية برصاصة قناص على طريق المتحف في بيروت، والثانية بعد اختفاء عرافتي، نهلة الشهوب. أحببتهـما بجنون واختفتا من حياتي بشكل صاعق. بينهما سنوات طويلة وأحزانٌ كثيرة، كغيوم تتدافعها رياحٌ هوجاء، ألفتها كما يألف الشجر انسلاخ بعض أغصانه في الريح، لكنّه يبقى واقفاً بما تبقّى منه، وليس عندي من خيار آخر. كتبت لتصريف بعض هذه الأحزان. أعلم أن الكتابة لا تشفي لكنّها أحياناً تسكن الأوجاع أو توهم بذلك.

في طفولتي، تعلمت من أمّي رسم الحروف والطيور على الفساتين التي كانت تخيطها لنسوة الحي في الأسواق القديمة، ولأخريات يأتين من ميناء طرابلس كنّ أكثر استعداداً في تقبل الأزياء التي تظهر مفاتن الأجساد كوميض الجزء الأعلى من الصدر، وفساتين تظهر طيّة الساق. كانت جورجيت أكثرهنّ شجاعة في ارتداء ملابس الحفر التي تسمح للجسد أن يمارس بعض الغوايات، ويظهر بدايات الأشياء‏ الشهية. كانت جورجيت بيضاء مكتنزة، تعتزّ بكونها عشيقة بحّار يوناني، يدعى ريتسوس ليس فيه من الشاعر اليوناني ريتسوس سوى الاسم وخصلة العشق للورد. عرفت هذه الخصلة الحميدة عند الشاعر يوم عملت في صحيفة {الشعب} وكلفت بإجراء حوار مع هذا الشاعر. اصطحبني إليه من قام بمهمة الترجمة ونصحني أن أحمل له باقة من الورد. أمّا ريتسوس الآخر فكان يمتلك حانة غير بعيدة عن المرفأ في ميناء طرابلس، صارت ملتقى لشلّة من اليساريين والمثقّفين. دلفت إلى هذه الحانة، بعد أن اشتدّ عودي وسمحت لي أمي أن اكتشف المدينة شرط أن أعاشر من هم أذكياء. وهذا معيار أربكني: كيف لي أن أكتشف الذكي من الأقّل نباهة؟ المهم لا أدري كيف صرت هناك في حانة جورجيت، ربما هي اصطحبتني مرة للاستماع إلى مغامرات البحار ريتسوس في بحر الشمال قبالة السواحل الهولندية. كان وصفه لأمستردام المقطّعة بأقنية المياه ولنسائها الرشيقات يحرّضني على الإبحار نحو ذلك العالم المجهول. ثم مع تكرار زياراتي للحانة ألفت المكان، وصرت عضواً مستمعاً لنقاشات حول مسألة الصراع الطبقي والمادية التاريخية. لم أكترث كثيراً بمسائل صراع الطبقات، كانت تستهويني أكثر فكرة أنّ الرياضيات لا تمثّل فقط علم العدد والكميّة، وإنما تمثّل أيضاً لغة صورية تجنح نحو الكونية. كان يثير مخيلتي هذا الكلام الغامض بشكل ساحر. هذه النظرية جعلتني لاحقاً أكثر تبحّراً في فكرة رقصة الدرويش، الدرويش الذي كان يرقص في الأسواق القديمة وأتبعه وهو يحوك الأزقة ببدنه ودورانه. تلك الرقصة لو جرّدتها، لشكّلت دوائر متداخلة، تشكّل تماساتها المتسارعة حقلاً جاذباً يولّد نشوة الروح. هذه الخلاصة الفلسفية كتبتها لاحقاً، في سياق تأملاتي في الوجود، بعد تمرّسي في التفكير وإيجاد علاقة بين رقصة الدراويش ودوران الأجرام.

يا لها من لعبة مدهشة.

كانت جورجيت سيدة الحانة بدأت تطوي نهاية الخمسينات، كفساتينها الموضبة في خزانة النوم. اقتصر حضورها في تلك الجلسات على تقديم الشراب وإسهامات خجولة في الغناء حين كانوا يطلبون مني أن أغني من مواويل الجدة، أو ممّا حفظته من مذياع أمّي لصالح عبد الحي والشيخ زكريا أحمد وأمّ كلثوم.

أذكر بشكل واضح أنّي أسرفت في رسم النون على الفساتين، قبل أن تستهويني مخارج الحروف، يوم أدركت بعض سرّ اللغة، وتعثرت في طفولتي في وضع الهمزة على رأس الألف وهي في الأصل عسيرٌ لفظها، وليس رسمها، كأنّها عالقة في بداية الحلق لكنّي كنت أراها غاية في الجمال، تشبه الدوري الجائع، فيها شيءٌ عاطفيٌ غامض.

يسحرني اختزال الصوت إلى هذه المعادلات والأشكال الصورية.

في سنوات لاحقة، كثيراً ما امتحنت حنجرتي وحلقي في البحث عن تلك المخارج التي كوّنت لغة مذهلة، ندوّن فيها كلّ ما يخطر في البال أو تمليه علينا دورات الأيام واقترافات البشر، أو يقترحه خيال جامحٌ، يشرقط مثل جمر المواقد في شتاء التأملات، في دارة جدي العالية على كتف الوادي المشرف على طرابلس.

علّمتني الأيام أن أجاور الهامش لا أبتعد عنه، كي لا أفقد في المتن إنسانيتي. وعلمتني سلمى زوجتي فقه الموسيقى وكيف أصغي إلى التآلفات. كانت عازفة بيانو ومغنية سوبرانو في كورال الجامعة، علّقت على الجدار لوحة كتب عليها: {عندما تسكت الموسيقى تتصدع جدران المدينة}.

حين قُتلتْ تصدعت جدران روحي.

أما عرّافتي نهلة الشهوب أو ننسسون: وهي تحمل الاسمين، تقرأ الكفّ في اسمها الثاني وفي اسمها الأول توقّع أبحاثها في علم الاجتماع، وهذه مفارقة عجيبة، فعلمتني أكثر الدروس مرارة، المكر، طبع السراب الأبدي، الذي يغوي ويستدرج الكائنات العطشى لماء كاذب . سألتها من سمّاك ننسون؟ قالت لي: {أنا سميت نفسي تيمناً بأمّ جلجامش، الملكة العرّافة التي أرسلت البغيّ إلى أنكيدو في الغابة لتروّضه، لكي يصبح صديق ابنها جلجامش، مات أنكيدو بعد حين، والحقيقة أنه قتل في مجانية الموت في سبيل الآخر، فراح جلجامش يبحث عن زهرة الخلود في أرض دلمون.

back to top