بيطري الصحراء

نشر في 22-04-2017
آخر تحديث 22-04-2017 | 00:00
No Image Caption
يجلس شيوخ أبو ظبي ودبي، وهم من أثرى أثرياء العالم، بثيابهم القطنية ناصعة البياض، مجتمعين على كراسٍ فخمة حمر مذهبة، في المقصورة الملكية المليئة بأزهار متعددة الألوان تملأ المكان بعطري المغنوليا والورد الجوري.

يعتبر ترتيب الجلوس علماً بحدّ ذاته، فهو يظهر تسلسل مراتب أصحاب السلطة في الإمارات العربية المتحدة الغنية بالنفط. فالعائلة الحاكمة في أبو ظبي تأتي في المرتبة الأولى تليها العائلة الحاكمة في دبي، وهو وضع يعكس ما آلت إليه قرون عدة من النزاعات القبلية في ما بينهما.

صحيح أن هؤلاء الحكام يعيشون الآن في سلام ووئام، إلا أنهم نقلوا نزاعاتهم الماضية إلى مستوى آخر راقٍ، يتمثل في سباقات الإبل التي تمثل نزاعاً متداخلاً بين الحضارات: تلك المتمثلة بالغبار والرمال والتعرّق في منافسة صحراوية على خلفية ساعات الرولكس البراقة وسيارات المازراتي العائدة للشيوخ، فهذه السباقات تخفي الماضي بين ثنايا الحاضر.

اليوم هو يوم المحك للغرور والكبرياء، ففي الوقت الذي يمتلك فيه حاكم دبي أعلى الأبراج شموخاً وبريقاً في الشرق الأوسط، وأكبر مجمعات التسوق، ونجح في اجتذاب العلامات التجارية العالمية إلى مدينته البراقة، إلا أن حاكم أبو ظبي يُعتبر مثالاً للسلطة الهادئة، فهو القائد الأعلى ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحتضن أرضه عشرة بالمئة من احتياطي النفط العالمي المعروف، وهذا النفط رهن بإشارته وهو ما يعرفه القاصي والداني.

تنصب المنافسة على الظفر بالجائزة المتمثلة بسيف ذهبي - وهو رمز عربي للسلطة والثراء مخصص لهذا السباق - بالإضافة إلى مئات الآلاف من الدولارات وعدد من السيارات. إلا أن أهمية السباق تتجاوز ذلك بكثير، فهو تنافس على الصدارة العشائرية في مجال فنّ تقليدي عريق، فبالرغم مما يمتلكونه من ثروات وسيارات البنتلي والفراري والقصور المزينة بالذهب، يبقى الأهم معرفة لمن سيكون قصب السباق، ومن يمتلك الإبل الأكثر سرعة.

لا يوجد ضمن هذه الدائرة الداخلية العربية غير غريب واحد، فأنا المكلف بجعل إبل الرئيس الأسرع في الخليج، وأنا موجود هنا لإجراء الفحوص الأخيرة لها. إنها الذروة في عملي المتواصل منذ نحو ثلاثة عقود، أي حياة مهنية أمضيتها راعياً لإبل الرئيس مستخدماً علومي لجعلها الأسرع والأكبر والأقوى. ولقد جعلني نجاحي أبرز بيطري للإبل في العالم، وأدخلني إلى عالم الثراء الخيالي الذي نادراً ما يلمحه أحد، عالم شيوخ العرب.

الإبل هي سبب قدومي إلى هذه البلاد وهي السبب أيضاً في تمضية نصف عمري هنا، فأنا مهووس بها. دعوني أشرح ما أعني بذلك؛ فلو جلس أي كان على رمال الصحراء الساكنة، وانتظر بهدوء وسكينة، سيراها تدنو منه بفضول لتتعرف إليه وإلى ما يقوم به، يا لها من كائنات رائعة وثرثارة في الوقت نفسه، فهي تطلق رغاءً قد يبدو مخيفاً ومزعجاً لمن لا يعرفه، ولكن الإبل عندما تصدر الرغاء، يكون القطيع في حالة حوار مع بعضه. لقد تعلمت معاني هذا الرغاء، وإن صح التعبير اللغة، وحين أتجول بين القطيع أقلد هذا الرغاء وخاصة رغاء الجمل، فإن رفعت إحدى النوق ذنبها أعلم أنها حبلى، وإن أحجمت أدرك أنها جاهزة للتزاوج، هل هناك شيء أكثر روعة من هذا.

تبعث صحبة الإبل الراحة والطمأنينة في نفسي الوزغة فهي لا تتخرص على أحد، ففي الوقت الذي يراها البعض قذرة وتنبعث منها الروائح الكريهة، لا أرى فيها إلا مخلوقات ذكية متكيفة إلى أقصى الحدود مع بيئتها، أضف إلى ذلك أنها جميلة القوام. من خلال عملي رأيت أنواعاً مختلفة من الإبل الرائعة مختلفة الأشكال والألوان، بدءاً من إبل السباقات بنية اللون والرشيقة والقوية في آن والقادرة على الجري بسرعة تصل إلى أربعين كيلومتراً في الساعة، مروراً بالأنواع السود العملاقة الرائعة التي قد تُكسب مالكها ملايين الدولارات في المسابقات المحلية.

أما إذا أردت أن أتحدث عن منزلي، فهو بمثابة موئل خصوصي للإبل، حيث ترى صورة لبناتي مع أحد أجمل القعود. كما ترى أيضاً منحوتة لجمل بسنامين نحته أحد رجال القبائل المنغولية من جذع شجرة، كما هناك منحوتة لجمل على قطعة من حجر نيزكي يعود عمره إلى أربعة مليارات ونصف مليار سنة. أما صور إبلي فأحتفظ بها داخل أُطر أوزعها في أرجاء المنزل كما يفعل الآخرون مع صور أفراد عائلاتهم.

أما مهنياً، فأنا كبير الأطباء البيطريين المعنيين برعاية إبل السباق العائدة لرئيس دولة الإمارات العربية، حاكم أبو ظبي، سمو الشيخ خليفة بن زايد. أما مركز الأبحاث الذي أسسناه قبل ثلاثين سنة فلقد أصبح رائداً عالمياً في مجال تقنية نقل الأجنة، وحقق نصف دزينة من الإنجازات العالمية الرائدة.

كما إنني أمتلك مجموعة خاصة من الإبل بما فيها ثلاثة مواليد جدد، وبغض النظر عن أي شيء آخر فإنها سلوتي الفريدة.

هذه هي لعبتي. هذا هو عملي. وبما أنني أعيش في دولة عربية فقد كان للإبل دور في اندماجي مع العرب البدو، وفي فترات الحزن دائماً ما لجأت إلى الإبل وانعزلت في عالمها فوجدت الصبر والسلوان، وبفضل الإبل انتقلت من الفقر إلى الثراء، قبل أن أعود للفقر، والآن أنعم بالثروة مجدداً.

هذا الهوس بالإبل هو من دون شك ما قادني لأمضي قرابة ثلاثة عقود من عمري في مدينة العين التي لم أسمع عنها قبل أن أعيش فيها، والتي لن أبرحها بعد الآن.

تشتهر الإمارات العربية المتحدة بأبراجها الشامخة وبمجمعات أسواقها الضخمة، وهي كالمغناطيس تجذب الغربيين الباحثين عن دعة بلاد العرب المترفة. من جهة أخرى هي ملاذ خال من الضرائب، متميز برواتبه السخية، يجذب الأستراليين والبريطانيين والأمريكان الباحثين عن دخل يغير حياتهم، قبل أن يقفلوا عائدين إلى بلادهم بعد ثلاث أو أربع سنوات.

لقد شاهدت آلاف الزوار القادمين والمغادرين وتعرفت إلى كثيرين منهم. أما أنا فقد استقبلت وودعت إلا أنني آثرت البقاء. وشاهدت خلال هذه السنين نهضة استثنائية، ربما لم يشهد لها العالم مثيلاً، فتحول المجتمع معها من وجود صحراوي إلى دولة حديثة مميزة. والآن وبعد أن أصبحت جداً لأطفال إماراتيين، فقد توثقت عرى صلتي بهذا البلد برابطة الدم.

بفضل الإبل بنيت لنفسي حياة لم أتصورها حتى في أكثر أحلامي الوردية. وبي يصدق القول مع بعض التصرف لكل مغامر مجتهد نصيب.

لا أجافي الحقيقة عندما أقول إن الإبل كانت هوسي الأعظم ولكنها لم تكن حبي الأول. لاحظ أنني أقول هوسي وليس حبي، فحب هذه المخلوقات ليس بالأمر اليسير لكافة الناس فهي ليست كالحيوانات الأليفة المنزلية، تقفز لتتوسد حضنك، أو تركض وراء الكرة التي ترميها لتجلبها، ولكن لديها ما لا يمتلكه غيرها من الحيوانات فهي تمنحك معنى الحرية وروح المخاطرة، وهذا مزيج لا يمكن للشخص الحر الأبي أن يعيش من دونه.

يمكنك القول إنه تمت برمجة البيطرة ضمن خصائصي الوراثية، فالبيطرة جزء من تقاليد آل تنسون، فلدى آل تنسون وأنسبائهم ما يربو على عشرين بيطرياً؛ فشقيقي بيطري وابنته كذلك، أما أختي فقد تزوجت من بيطري لديه أشقاء بيطريين، وتطول اللائحة على هذا المنوال. يعمل بعض أقربائي وأنسبائهم في المزارع أما بعضهم الآخر فيمتلكون عياداتهم البيطرية. لكنني، بقدر ما أثمّن عملهم، لم أتطلع إلى العمل كبيطري يرعى قطط هذه السيدة أو تلك، ولا أتذكر يوماً لم تجذبني فيه فطرتي نحو الغريب والخطير.

لقد نشأت في سنت آيفز، إحدى ضواحي سدني التي كثيراً ما تربي المحامين والمصرفيين والأطباء، تتميز بخبزها الأبيض وبنظافتها وحسن ترتيبها، وبالقروض العقارية الضخمة وبسياراتها العائلية وبطموحات ساكنيها. أما منزلنا فكان لحسن حظي متاخماً للبراري ولأحد الجداول الصغيرة. ولو تابعت مجرى الجدول لبضعة كيلومترات لوجدت نفسك في منتزه كو رنغ غاي الوطني، أي في عالم آخر لم يخضع للمسات أو ترويض الحضارة البشرية، وكنت ستشعر خلال فترة وجيزة أنك انتقلت إلى مجاهل الأمازون.

كان هذا عالمي الخاص الذي لم أفوّت فرصة للهروب إليه، مع أصحابي أحياناً وبمفردي غالباً. كان مكاناً يتيح لي الاختلاء بنفسي لساعات طويلة، وكنت أعرف جميع الأشجار والصخور والكائنات الحية التي تعيش فيه. ولو تمعنت بدقة لكنت رصدت مختلف الحيوانات والطيور على الشجيرات ذات اللونين البني والأخضر.

أما المخلوقات التي كنت أفضلها فكانت تلك التي تختبئ تحت الصخور أو تلك التي تتسلل بين الحشائش الأرضية، أي تلك التي تخيف معظم الناس ومن بينها الزواحف والأفاعي.

من الغريب أن يهوى إنسان الأفاعي، ولكن خصائصها كانت تفتنني، وكنت أحب كل ما يميزها عن غيرها من المخلوقات، وكانت تبدو لي وكأنها قادمة من عالم آخر. كانت تمثل لغزاً وكانت غريبة، وكان امتلاكي لها يجعلني أشعر بالغرابة.

كنت أجمع الأفاعي كما كان غيري من الأطفال يجمعون بطاقات كرة القدم، وكنت أسعى دائماً إلى الإمساك بالأكبر والأندر من هذه الفصيلة أو تلك. وكانت هناك بالطبع نشوة البحث والتتبع والإمساك بأفعى النمر أو الأفعى السوداء الفتاكتين من دون أن أُلدغ. وللتعامل مع الأفاعي، يجب أن تكون لائقاً خفيف الحركة وسريع البديهة، فالغلطة الأولى ربما تكون الأخيرة مع هذه الكائنات البالغة الخطورة.

back to top