الجهاديون الجدد... من هم؟

نشر في 16-04-2017
آخر تحديث 16-04-2017 | 00:04
No Image Caption
إليكم نبأ جديداً عن أعمال العنف الإرهابية التي يرتكبها الجهاديون في آخر 20 سنة. كانت مظاهر الإرهاب والجهاد موجودة منذ سنوات، وتعود أشكال الإرهاب «المُعَولَم» إلى أيام الحركة اللاسلطوية في أواخر القرن التاسع عشر على الأقل. لكن تُعتبر طريقة الإرهابيين في تنفيذ أحكام الموت راهناً غير مسبوقة. في آخر 20 سنة (بدءاً من خالد كلكال المسؤول عن مخطط تفجير قطارات باريس في عام 1995 وصولاً إلى قتلة «باتاكلان» في عام 2015)، فجّر معظم الإرهابيين في فرنسا أنفسهم أو قتلتهم الشرطة. تفوّه محمد مراح الذي قتل الحاخام مع ثلاثة أولاد في مدرسة يهودية في «تولوز» في عام 2012 بنسخة من العبارة الشهيرة التي تُنسَب في العادة إلى بن لادن ويستعملها دوماً الجهاديون الآخرون: «نحب الموت بقدر ما تحبون الحياة!». «الغارديان» نشرت مقتطفاً من كتاب العالم السياسي الفرنسي أوليفييه روي الأخير حول الموضوع.
يُعتبر الميل إلى اختيار الجهاديين الموت المنهجي تطوراً حديث العهد. كان مرتكبو الاعتداءات الإرهابية في فرنسا خلال السبعينيات والثمانينيات، سواء ارتبطوا بالشرق الأوسط أو لم يرتبطوا به، يخططون لهربهم بحذر. لكن لماذا يختار الإرهابيون الموت دوماً في آخر 20 سنة؟ ما الذي يعكسه هذا التوجّه بشأن التطرّف الإسلامي المعاصر ومجتمعاتنا الحديثة؟

يحتل السؤال الأخير أهمية فائقة لأن هذا الموقف من الموت يرتبط بشكل أساسي بواقع أنّ النزعة الجهادية المعاصرة، أقله في الغرب (وفي المغرب العربي وتركيا أيضاً)، تشتقّ من حركة شبابية لم تنشأ بمعزل عن دين الآباء وثقافتهم فحسب، بل ترسّخت أيضاً في ثقافة الشباب على نطاق أوسع. يمكن اعتبار هذا الجانب من النزعة الجهادية المعاصرة نقطة محورية.

كلما برز هذا النوع من الكره بين الأجيال، يعود ويتّخذ شكلاً من تحطيم الأفكار الثقافية. لا يقتصر الدمار على البشر بل يشمل التماثيل وأماكن العبادة والكتب أيضاً. بهذه الطريقة تُمحى الذكريات. كان «محو الماضي» هدفاً مشتركاً للحرس الأحمر التابع لماو تسي تونغ وحركة «الخمير الحمر» ومقاتلي «داعش». في هذا السياق، كتب جهادي بريطاني في دليل التجنيد: «حين ننزل إلى شوارع لندن وباريس وواشنطن، لن نسفك دماءكم فحسب بل سندمر تماثيلكم أيضاً ونمحو تاريخكم، والأفظع من ذلك هو أننا سنغيّر ديانة أولادكم وسرعان ما يحمل هؤلاء اسمنا ويلعنون أجدادهم».

صحيح أن الثورات كافة تؤجّج طاقة الشباب وحماستهم، لكن لا يحاول معظمها تدمير الماضي. قررت الثورة البلشفية مثلاً أن تضع آثار الماضي في المتاحف بدل هدمها ولم تفكر جمهورية إيران الإسلامية الثورية يوماً بتفجير «تخت جمشيد».

لا يتعلّق هذا البعد المبني على التدمير الذاتي بسياسة الشرق الأوسط. حتى أنه ربما يعطي نتائج عكسية عند استعماله كاستراتيجية بحد ذاتها. صحيح أن تنظيم «داعش» يجاهر بسعيه إلى إعادة إحياء دولة الخلافة، لكنّ نزعته إلى إلغاء الآخر تمنع التوصّل إلى أي حل سياسي، أو المشاركة في أي شكل من المفاوضات، أو إنشاء مجتمع مستقر ضمن الحدود المتعارف عليها.

نحتاج إلى مقاربة جديدة لمعالجة مشكلة «داعش» تفهم حقيقة العنف الإسلامي المعاصر إلى جانب أشكال أخرى ومشابهة من العنف والتطرّف، كتلك التي تشمل ثورة الأجيال والتدمير الذاتي والانشقاق التام عن المجتمع والتفنّن بأعمال العنف وطقوس القتل المشينة.

ينسى كثيرون أن مظاهر الإرهاب الانتحاري والتنظيمات التي تشبه «القاعدة» و»داعش» لا تزال جديدة في تاريخ العالم الإسلامي، ولا يمكن نَسْبها ببساطة إلى نشوء الأصولية. يجب أن نفهم أنّ الإرهاب لا يشتق من تطرف الإسلام بل من أسلمة التطرف.

مقاربات وانتقادات

يجبرنا مفهوم «أسلمة التطرف» على التساؤل حول السبب الذي دفع الشباب الثائر إلى نموذج الإسلام للتعبير عن ثورته الشاملة وطريقة وصوله إلى ذلك الطريق. مع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الإسلام الأصولي بدأ يتطوّر منذ أكثر من 40 سنة.

تعرّضت هذه المقاربة لانتقادات لاذعة. يدّعي أحد العلماء أنني أهملتُ أسباب الثورة السياسية، لا سيما الإرث الاستعماري والتدخلات العسكرية الغربية ضدّ شعوب الشرق الأوسط والتهميش الاجتماعي للمهاجرين وأولادهم. من ناحية أخرى، اتّهموني بتجاهل الرابط القائم بين العنف الإرهابي وبين تطرف الدين الإسلامي عن طريق السلفية، أي تفسير الإيمان بأعلى درجات التطرف. أدرك هذه الأبعاد كلها، لكني أقول ببساطة إنها ليست مناسبة لتفسير الظاهرة التي ندرسها نظراً إلى غياب أي رابط سببي بناءً على البيانات التجريبية المتاحة.

بحسب رأيي، لا ينجم التطرف العنيف عن التطرف الديني حتى لو كانا يتبعان المسارات نفسها ويستعملان معايير متشابهة غالباً. الأصولية الدينية موجودة طبعاً وتطرح مشاكل اجتماعية كبرى لأنها ترفض القيم المبنية على الخيار الفردي والحرية الشخصية. لكنها لا تؤدي إلى العنف السياسي بالضرورة.

يوحي الاعتراض القائل إن المتطرفين يتحرّكون بدافعٍ من «المعاناة» التي عاشها المسلمون الذين تعرضوا سابقاً للاستعمار، أو وقعوا ضحية العنصرية أو أي شكل من التمييز، أو واجهوا القصف الأميركي والطائرات بلا طيار والاستشراق وغيرها من مظاهر مماثلة، بأن الثورة تحصل في المقام الأول بقيادة الضحايا. لكن تبدو العلاقة القائمة بين المتطرفين وبين الضحايا خيالية أكثر منها حقيقية.

لا يقيم مرتكبو الاعتداءات في أوروبا داخل قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة من أفقر الناس أو أكثرهم إذلالاً أو أقلهم اندماجاً. لما كان 25% من الجهاديين يغيّرون دينهم، فيتّضح أن الرابط بين المتطرفين وبين «شعبهم» مجرّد مفهوم خيالي في معظمه.

لا يأتي الثوار في معظمهم من الطبقات الفقيرة. حين يتماهون مع طبقة العمال و«حشود» الناس والمستعمَرين، يرتكز خيارهم على عامل مختلف عن ظروفهم الموضوعية. يقلّ عدد الإرهابيين أو الجهاديين الذين ينشرون قصص حياتهم. بل إنهم يتحدثون عموماً عن معاناة شاهدوها في حياة الآخرين. مثلاً، لم يكن مطلقو النار في «باتاكلان» فلسطينيين!

حتى منتصف التسعينيات، جاء معظم الجهاديين الدوليين من الشرق الأوسط، وكانوا حاربوا في أفغانستان قبل سقوط النظام هناك في عام 1992. عادوا لاحقاً إلى بلدانهم الأصلية للمشاركة في حركة الجهاد، أو نقلوا القضية إلى الخارج. أطلق هؤلاء الأشخاص أول موجة من الاعتداءات «المُعَولمة» (أول محاولة ضدّ مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 1993، ثم ضدّ السفارات الأميركية في شرق إفريقيا في عام 1998، ثم ضدّ المدمّرة البحرية الأميركية «يو إس إس كول» في عام 2000).

تدرّب هذا الجيل الأول من الجهاديين على يدّ أشخاص من أمثال بن لادن ورمزي يوسف وخالد شيخ محمد. لكن اعتباراً من عام 1995، نشأت فئة جديدة تُعرَف في الغرب باسم «الإرهابيين المحليين».

نقاط تشابه

لكن من هم هؤلاء المتطرفون الجدد؟ نعرف معلومات عن حياة الإرهابيين الناشطين في أوروبا أكثر مما نعرف عن الجهاديين الذين يغادرون إلى بلدان أجنبية ولا يعودون مطلقاً. لكن أشارت دراسة أجراها «معهد باريس للدراسات السياسية» حول الجهاديين الفرنسيين الذين ماتوا في سورية إلى تعدّد نقاط التشابه بين تلك المجموعات.

سأركز في المقام الأول على البلجيكيين الفرنكوفونيين الذين يصدّرون معظم مجموعات الجهاديين الغربيين. لكن تجدر الإشارة إلى إقدام ألمانيا وبريطانيا والدنمارك وهولندا أيضاً على نشر وحدات واسعة على خطوط المواجهة.

استناداً إلى هذه المعلومات، جمعتُ قاعدة بيانات عن نحو مئة شخص كانوا تورّطوا في أعمال إرهابية في فرنسا أو غادروا فرنسا أو بلجيكا للمشاركة في حركة الجهاد العالمية في آخر 20 سنة. تشمل البيانات مرتكبي الاعتداءات الكبرى التي استهدفت الأراضي الفرنسية أو البلجيكية.

ما من مواصفات نموذجية للإرهابيين، لكن يبرز بعض الخصائص المتكررة. يتعلّق أول استنتاج يمكن استخلاصه بعدم تغيّر تلك المواصفات بدرجة كبيرة في آخر 20 سنة. مثلاً، يتقاسم خالد كلكال، أول إرهابي محلي في فرنسا، والأخوان كواشي (اعتداء «شارلي إيبدو»، باريس 2015) عدداً من الخصائص المشتركة: ينتمي الرجال الثلاثة إلى الجيل الثاني، وكانوا مندمجين نسبياً في مجتمعاتهم، وتورطوا سابقاً في جرائم صغيرة، وأصبحوا متطرفين في السجن، ثم تورطوا في الاعتداءات الإرهابية وماتوا وهم يمسكون بأسلحتهم خلال المواجهة مع الشرطة.

تتقاسم البلدان الغربية كافة سمة أخرى: يكون معظم المتطرفين من المسلمين «المولودين من جديد»، بمعنى أنهم يعيشون حياة علمانية بامتياز (يقصدون الملاهي، ويشربون الكحول، ويتورطون في جرائم صغيرة)، ثم يجدّدون شعائرهم الدينية فجأةً، فردياً أو ضمن مجموعة صغيرة. يبدأ معظمهم نشاطاته في الأشهر التي تلي «العودة إلى الدين» أو «اعتناق الدين الجديد» لكن تظهر عليهم جميعاً علامات التطرف. مثلاً، كان الأخوان عبد السلام يديران حانة في بروكسل ويقصدان الملاهي الليلية خلال الأشهر التي سبقت حادثة إطلاق النار في مسرح «باتاكلان».

في الحالات كافة تقريباً، يُستعمل النهج نفسه لتشكيل الجماعة المتطرفة. تبدو العلاقة التي تجمع بين أعضاء الجماعة متشابهة دوماً: إخوة، أو أصدقاء من أيام الطفولة، أو معارف من السجن أو من معسكر التدريب أحياناً. تبرز أيضاً مجموعات لافتة من الأشقاء.

لا يظهر هذا العدد المفرط من الأشقاء في أي سياق آخر من مظاهر التطرف، ولا حتى في اليسار المتطرف أو في الجماعات الإسلامية. لذا يسلّط هذا الوضع الضوء على أهمية التقارب بين أبناء الجيل الواحد في مفهوم التطرف.

كتب الجهادي السابق ديفيد فالات عن إمكان اختصار خطاب الواعظين المتطرفين بالعبارة التالية: «إسلام آبائكم هو الإسلام الذي تركه المستعمرون خلفهم. إنه إسلام الأشخاص الذين يرضخون ويطيعون الأوامر. أما إسلامنا، فهو إسلام المقاتلين، إسلام الدم والمقاومة».

يكون المتطرفون يتامى غالباً (كما كان الأخوان كواشي) أو يتحدرون من عائلات شائبة. لا يتمرّد هؤلاء الأشخاص بالضرورة ضدّ أهاليهم بل ضدّ كل ما يمثلونه، أي الإهانة والتنازلات المقدّمة للمجتمع وما يعتبرونه جهلاً لدينهم.

نزعة جهادية

لا يتحدّر المتطرفون من مجتمعات متشدّدة. من الشائع أن تُعتبر النزعة الجهادية امتداداً للسلفية. لا يكون جميع السلفيين جهاديين لكن يُفترض أن يكون جميع الجهاديين سلفيين، لذا تشكّل السلفية بوابة نحو النزعة الجهادية. باختصار، يُعتبر التطرف الديني أول مرحلة من التطرف السياسي. لكن تبيّن أن الوضع أكثر تعقيداً مما يبدو عليه.

لا يمارس الجهاديون أعمال العنف بعد تأمّل نصوص مقدسة ولا يحملون بالضرورة ثقافة دينية محددة، حتى أنهم لا يهتمون كثيراً باكتساب ثقافة مماثلة. لا يصبح هؤلاء الأشخاص متطرفين لأنهم يسيئون قراءة النصوص أو يتم التلاعب بهم، بل إنهم يصبحون متطرفين لأنهم يختارون هذا المسار ولأن التطرف وحده يجذبهم. بغض النظر عن قاعدة البيانات المستعملة كمرجع لتحليل هذا الموضوع، من الواضح أن الجهاديين يفتقرون إلى المعارف الدينية. بحسب سجلات «داعش» المسرّبة والمليئة بتفاصيل عن أكثر من 4 آلاف مجنّد أجنبي، يكون معظم المقاتلين متعلّمين لكن يعترف 70% منهم بأن معرفتهم بالإسلام بدائية.

يجب أن نميّز بين نسخة الإسلام التي يتبناها «داعش» وترتكز ظاهرياً على تحليلات «العلماء»، وبين إسلام الجهاديين المنتمين إلى «داعش» والذي يتمحور بشكل أساسي حول مبدأ البطولة والعنف المعاصر.

لا ينجم التطرف عن التفسيرات الكتابية التي تملأ صفحات مجلّتَي «دابق» و«دار الإسلام» (مجلتان حديثتان أطلقهما تنظيم «داعش» باللغتين الإنكليزية والفرنسية). ربما تساهم تلك التفسيرات في إيجاد منطق لاهوتي لتبرير عنف المتطرفين من دون أن يرتكز ذلك المنطق على معارف حقيقية بل على حب السلطة. حين يتكلم الجهاديون الشباب عن «الحقيقة»، لا يعنون بكلامهم المعارف المنطقية بل يتحدثون عن قناعاتهم الخاصة التي تتماشى أحياناً مع كلمات الشيوخ مع أنهم لم يطّلعوا عليها يوماً. على سبيل المثال، قال الفرنسي سيدريك الذي اعتنق الإسلام خلال محاكمته: «لم أصبح جهادياً عبر الإنترنت ولم أعتنق الإسلام عبر «يوتيوب». بل قرأتُ مؤلفات العلماء الحقيقيين». لكنه أدلى بهذا التصريح مع أنه لا يجيد قراءة اللغة العربية وقد قابل أعضاء شبكته عبر الإنترنت.

من المنطقي على الأرجح أن نبدأ بسماع ما يقوله الإرهابيون. تتكرر المواضيع نفسها معهم جميعاً ويمكن اختصارها بالتصريح الذي أدلى به محمد صديق خان، زعيم الجماعة المسؤولة عن تفجيرات لندن في 7 يوليو 2005.

تعلّق أول دافع ذَكَره بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها البلدان الغربية ضد «الشعب المسلم»، وارتبط الدافع الثاني باتخاذ موقف بطولي انتقامي («أنا المسؤول المباشر عن حماية إخوتي وأخواتي المسلمين والانتقام لهم»)، وتعلّق الدافع الثالث بالموت («نحن نحب الموت بقدر ما تحبون الحياة») وبلوغه الجنة («ليرفعني الله بين أولئك الذين أحبهم مثل الأنبياء والرسل والشهداء»).

لكن لم تتحدد يوماً الجماعات المسلمة التي يتوق هؤلاء الإرهابيون إلى الانتقام لها. إنها حقيقة غير تاريخية وغير واقعية. حين يثور الجهاديون ضد السياسة الغربية في الشرق الأوسط، يستعملون كلمة «صليبيين» ولا يذكرون الاستعمار الفرنسي للجزائر.

لا يتكلم المتطرفون عن فترة الاستعمار صراحةً، بل إنهم يرفضون جميع الحركات السياسية والدينية التي نشأت قبلهم أو يتجاهلونها. كذلك لا يؤيدون نضالات آبائهم ولا يعود أي منهم إلى بلدان أهاليهم الأصلية لنشر الجهاد هناك. يُشار إلى أن الجهاديين كلهم، سواء وُلدوا مسلمين أو اعتنقوا الإسلام لاحقاً، لم يعلنوا نفسهم جزءاً من الحركة المؤيدة للفلسطينيين ولم ينتسبوا إلى أي جمعية تحارب «رهاب الإسلام» أو أي منظمة إسلامية غير حكومية. يقرأ هؤلاء المتطرفون النصوص المنتشرة على الإنترنت باللغة الفرنسية أو الإنكليزية لكنهم لا يطالعون مؤلفات باللغة العربية.

من اللافت أيضاً ألا يتكلم المدافعون عن «الدولة الإسلامية» عن الشريعة أو عن المجتمع الإسلامي الذي سيُبنى تحت راية «داعش». يعود غالباً الأشخاص الذين يدّعون الذهاب إلى سورية للعيش «في مجتمع إسلامي حقيقي» وينكرون المشاركة في أعمال العنف أثناء وجودهم هناك، وكأن الرغبة في إطلاق الجهاد والرغبة في العيش بحسب الشريعة الإسلامية لا تتطابقان. يحصل ذلك لأن الجهاديين لا يهتمون بالعيش في مجتمع إسلامي ولا يذهبون إلى الشرق الأوسط للعيش هناك بل للموت. هذه هي المفارقة الحقيقية: لا يكون هؤلاء الشبان المتطرفون متوهمين بل عدميين.

يبدو المتطرفون الجدد أكثر تشدداً من أجيال الثوار السابقين، أي الإسلاميين والسلفيين، في كرههم المجتمعات القائمة، الغربية منها والمسلمة. يتمثل هذا الكره بسعيهم إلى قتل نفسهم عند ارتكاب جرائم قتل جماعية. هم يقتلون نفسهم تزامناً مع قتل العالم الذي يرفضونه. منذ 11 سبتمبر 2001، أصبحت هذه الطريقة خطة العمل المفضّلة لدى المتطرفين.

أصبح القاتل الجماعي الانتحاري شخصية معاصرة شائعة للأسف. يتعلق أبرز مثال نموذجي بمطلقي النار في المدارس الأميركية: يذهب الطالب إلى مدرسته وهو مدجّج بالأسلحة ويقتل عشوائياً أكبر عدد من الناس، ثم يقتل نفسه أو يسمح للشرطة بقتله. يكون ذلك الشاب نشر صوراً وفيديوهات وتصريحات عبر الإنترنت يتبنى فيها مواقف بطولية ويبدو مسروراً جداً لأن الجميع سيعرفونه الآن. في الولايات المتحدة، وقع 50 اعتداءً أو محاولة اعتداء من هذا النوع بين عامَي 1999 و2016.

من المبرر أن تكون الحدود الفاصلة بين هذا القاتل الجماعي الانتحاري وبين المقاتل الذي يحارب لأجل دولة الخلافة مبهمة. على سبيل المثال، اعتُبر القاتل في حوادث مدينة «نيس» مريضاً نفسياً في البداية ثم قيل إنه مقاتل في «داعش» وارتكب جريمته مع سبق الإصرار. لكن لا تنطبق هذه الأفكار كلها على مختلف الجماعات.

لا نريد أن نجمع هذه الفئات كلها في الخانة نفسها. لكل فئة خصائصها لكن يبرز قاسم مشترك بينها ويتعلق بأعمال القتل الجماعية التي يرتكبها الشباب المستاؤون والعدميون والانتحاريون. أما المنظمات التي تشبه «القاعدة» و«داعش»، فتكتب من جهتها السيناريو الذي يجب تطبيقه.

ثقافة الشباب

ينغمس معظم المتطرفين الجدد في ثقافة الشباب، بمعنى أنهم يقصدون الملاهي الليلية ويقيمون العلاقات مع الفتيات ويدخنون ويشربون. بحسب قاعدة البيانات التي جمعتُها، تورّط نصف الجهاديين في فرنسا تقريباً بجرائم صغيرة في السابق، لا سيما تجارة المخدرات، فضلاً عن أعمال العنف وبدرجة أقل السطو المسلّح. سُجّلت الأرقام نفسها في ألمانيا والولايات المتحدة، بما في ذلك عدد مفاجئ من الاعتقالات بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول. يتطابق أسلوب ملابسهم وذوقهم الموسيقي أيضاً مع معايير الشباب المعاصر. يُعتبر مغني الراب الألماني دينيس كوسبرت (عُرِف في البداية باسم «ديسو دوغ» ثم أبي طلحة الألماني) إحدى أشهر الشخصيات المتطرفة، وذهب للقتال في سورية. يحب هؤلاء الأشخاص ألعاب الفيديو أيضاً ويعشقون الأفلام الأميركية العنيفة.

ربما ترتبط ميولهم العنيفة بدوافع مختلفة عن الجهاد والإرهاب (هذا ما تثبته حروب العصابات في «مرسيليا»). حتى أنها تتأثر بمؤسسات معيّنة (أراد محمد مراح أن ينخرط في الجيش) أو ببعض أنواع الرياضة. قرّر عدد من معتنقي الإسلام البرتغاليين (كان معظمهم في الأصل من أنغولا) مغادرة لندن للانضمام إلى «داعش» بعدما تعرّفوا إلى بعضهم بعضاً في نادٍ للملاكمة التايلاندية أنشأته منظمة بريطانية غير حكومية. من ثم، تكون نوادي الرياضات القتالية أهم من المساجد في حياة الجهاديين الاجتماعية.

يستعمل المتطرفون دوماً لغة البلد الذي يقيمون فيه. في فرنسا، يلجأون غالباً إلى نسخة «سلفية» من لهجة الضواحي الفرنسية حين يعودون إلى جذورهم الدينية.

على صعيد آخر، تسمح لهم الفترة التي يمضونها في السجن بالاحتكاك بـ«نظرائهم» المتطرفين بعيداً عن أي دين مؤسسي. يُضَخّم السجن عوامل كثيرة تؤجج مظاهر التطرف المعاصر: التقارب بين أبناء الجيل الواحد، والتمرّد على النظام، ونشر معنى السلفية المبسّطة، وتشكيل مجموعة متماسكة، والبحث عن الكرامة المرتبطة باحترام المعايير، وإعادة تفسير الجرائم واعتبارها شكلاً مشروعاً من الاحتجاج السياسي.

تتعلّق صفة مشتركة أخرى بابتعاد المتطرفين عن أوساطهم المقرّبة. لم يَعِش هؤلاء الأشخاص في بيئات متديّنة بشكل خاص، بل كانت علاقتهم بالمسجد المحلي متناقضة: كانوا يقصدونه من وقت إلى آخر أو طُردوا منه لأنهم لم يحترموا الإمام المحلي. لم يكن هؤلاء الشبان ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ولم يعملوا مع جمعية خيرية مسلمة، وما كانوا جزءاً من نشاطات التبشير، ولم ينتسبوا إلى حركة التضامن الفلسطينية، وأخيراً لم يشارك أحد منهم في أعمال الشغب التي اجتاحت الضواحي الفرنسية في عام 2005. من ثم، لم يصبح هؤلاء الأشخاص متطرفين بتأثيرٍ من حركة دينية قبل أن يتوجهوا إلى الإرهاب.

حتى لو كان أساس التطرف دينياً فعلاً، إلا أنه لم يتطوّر بين أروقة المساجد السلفية بل نشأ بشكل فردي أو ضمن مجموعة. برز بعض الاستثناءات في بريطانيا حصراً كونها تشمل شبكة مساجد متشددة يقصدها أعضاء تنظيم «المهاجرين» الذي مهّد لظهور جماعة أكثر تطرفاً اسمها «الشريعة لأجل بريطانيا» بقيادة أنجم تشودري. لذا تتعلّق المسألة الأساسية الآن بتحديد الوقت الذي يصبح فيه الجهاديون متديّنين ومكان حصول ذلك.

تتأجج الحماسة الدينية خارج البنى الاجتماعية، في مرحلة متأخرة وبوتيرة شبه مفاجئة، وقبل وقت قصير من انتقال الإرهابيين إلى تنفيذ العمليات.

باختصار، يكون المتطرّف النموذجي شاباً مهاجراً من الجيل الثاني أو شخصاً اعتنق الإسلام، ويتورّط غالباً بفصول من جرائم صغيرة ولا يكون تلقى أي شكل من التعليم الديني، بل إنه يتخذ مساراً سريعاً وحديثاً لتغيير دينه أو العودة إلى دينه الأصلي، ولا تتطوّر هذه النزعة عموماً داخل المساجد بقدر ما تنشأ في إطار مجموعة من الأصدقاء أو عبر الإنترنت.

نادراً ما يبقى الميل إلى التديّن خفياً بل يجاهر به المتدينون من دون أن ينغمسوا في الممارسات الدينية بالضرورة. في هذه الحالة، يتخذ خطاب التديّن منحىً عنيفاً (يُعتبر العدو «كافراً» ولا يمكن التوصل معه إلى أية تسوية) لكنه يشمل أيضاً أفراد عائلة المتديّنين، وربما يُتّهَم عدد منهم بإساءة التعامل مع الإسلام أو رفض اعتناقه.

في الوقت نفسه، من الواضح أن قرار المتطرفين تبنّي مبدأ الجهاد وإعلان انتمائهم إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة ليس مجرّد خيار انتهازي: استعمال الإسلام كمرجعٍ بحد ذاته كفيل بتوضيح الفرق بين الجهاد وبين أشكال العنف الأخرى التي ينغمس فيها الشبان. يُعتبر ميل هؤلاء إلى اختيار الإسلام كإطارٍ لتفكيرهم وتحركاتهم أمراً محورياً، لذا يجب أن نسعى إلى فهم ظاهرة أسلمة التطرف على وجه التحديد.

قوة «داعش» وخوفنا

تكمن قوة «داعش» في قدرته على استغلال مخاوفنا. يتعلّق الخوف الأساسي بالإسلام. يقتصر الأثر الاستراتيجي للاعتداءات على الناحية النفسية. لا تؤثر تلك الاعتداءات في القدرات العسكرية الغربية، حتى أنها تزيدها قوة من خلال وضع حدّ لتخفيضات الميزانية العسكرية. يأتي أثرها الاقتصادي هامشياً أيضاً ولا تُهدّد مؤسساتنا الديمقراطية إلا حين تدفعنا إلى التشكيك بها عن طريق الجدل المتواصل حول الصراع القائم بين الأمن وبين حكم القانون. لكننا نخشى أن تنهار مجتمعاتنا وتندلع حرب أهلية بين المسلمين و«الآخرين».

مثل «القاعدة»، يبدو أن تنظيم «داعش» صمّم نظاماً وهمياً ضخماً يستعمله لادعاء نجاحه في غزو الغرب وهزمه. إنه وهم كبير، كإيديولوجيات الألفية كافة. لكن على عكس الإيديولوجيات العلمانية الكبرى في القرن العشرين، ترتكز النزعة الجهادية على قاعدة اجتماعية وسياسية ضيقة جداً، إذ اتّضح أنها تعجز عن تعبئة الحشود ولا تجذب إلا الأشخاص الذين يعيشون على الهامش.

يريد البعض أن يجد في الإسلام إيديولوجيا متطرفة قادرة على تعبئة حشود واسعة من الناس في العالم المسلم مثلما تمكّنت النازية من كسب تأييد أجزاء واسعة من الشعب الألماني. لكن على أرض الواقع يبقى ادعاء «داعش» المرتبط بإنشاء دولة خلافة عالمية مجرّد وهم. لذا يجذب هذا التنظيم شباباً عنيفين يحلمون ببلوغ أعلى درجات العظمة.

مقتطف من كتاب Jihad and Death:The Global Appeal of Islamic State (الجهاد والموت: الجاذبية العالمية للدولة الإسلامية) بقلم أوليفييه روي (دار نشر «هيرست»).

لا ينجم التطرف العنيف عن التطرف الديني حتى لو كانا يتبعان المسارات نفسها

معظم الإرهابيين يبدأ نشاطاته في الأشهر التي تلي «اعتناق الدين الجديد»

المتطرفون الجدد أكثر تشدداً من الثوار السابقين في كرههم المجتمعات القائمة

لم تتحدد يوماً الجماعات المسلمة التي يتوق الإرهابيون إلى الانتقام لها
back to top