حبر وورق

نشر في 15-04-2017
آخر تحديث 15-04-2017 | 00:03
No Image Caption
أنين الأمل

تعيش أمل مع جدتها لأمها في حي شعبـي فقير مزدحم بالسكان والبيوت المتهالكة، لكل بيت من هذه البيوت قصة، ولكل شخص حكاية فيها هموم وأحزان، ولا تخلو من الأحلام الجميلة. جمع هذا الحي بين الغريب المهاجر والمرتزق المكافح مع أهل البلد، الذين دفعهم الفقر إلى العيش فيه، فاندمجوا وانسجموا بعضهم مع بعض وكوَّنوا مجتمعاً صغيراً.

توفيت والدة أمل بعد ولادتها بعدة أشهر، أما والدها فلا يعلم عنه أحد شيئاً، فقد اختفى منذ ولادتها ولم يرَها... قيل إنه هاجر، وقيل إنه في السجن. ففي المجتمع الذي تعيش فيه أمل يكثر نسج الحكايات والأقاويل عن الناس.

أما جدتها، فامرأة في بداية الستينات من عمرها، انطوائية وعصبية وحذرة، ومتوجسة دائماً ولا تثق بأحد، لذا لم تختلط بالجيران ورفضت الاحتكاك بهم. تميزت بطبعها الحاد، وقلة كلامها، وعاملت حفيدتها بقسوة معتقدة أنها بذلك تحميها وتهيئها للعيش في المجتمع. انعكست هذه المعاملة على شخصية أمل التي نشأت صامتة خجولة، ولكنها صابرة قوية.

كان الجو بارداً ورطباً، والسماء ممطرة، وقبيل الفجر، استيقظت أمل كعادتها، وارتدت زيها المدرسي، وتدثرت بسترتها الصوفية، وحملت حقيبتها. ذهبت إلى المطبخ حيث اعتادت أن تتناول طعامها، وبمجرد أن دخلت المطبخ قالت لها جدتها: «تناولي طعامك بسرعة حتى لا تتأخري عن المدرسة». فجلست أمل، وبدأت تتناول فطورها بصمت وهدوء، وكأنه روتين يومي أو أمر يجب عليها تنفيذه بلا اعتراض أو نقاش كغيره من الأوامر التي تتلقاها من جدتها.

ولدت أمل غريبة، وتعايشت مع غربتها حتى صارت جزءاً منها. كانت كغيرها من الصغار تلعب وتضحك ببراءة، لكنها كلما كبرت بدأت تفقد براءة ضحكتها شيئاً فشيئاً، وبدأت تفهم وتعي ما يدور حولها، وها هي اليوم وبعدما بلغت الثانية عشرة تبدو انطوائية كئيبة مهيضة الجناح تعيش حياتها كالآلة، بعدما نُبِذت في حيها ومدرستها.

تداول أهل الحي القصص والأقاويل عن جدة أمل، فقالوا إنها ساحرة، وإنها كانت السبب في وفاة ابنتها ورحيل زوجها، لذا كانوا يتعاملون معها ومع حفيدتها بخوف وحذر، وقد بلغ الأمر بالطالبات زميلات أمل بالصف أن هربن منها إن وجدنها وحدها.

ما إن فرغت أمل من تناول فطورها، حتى حملت حقيبتها، وغادرت سائرة في الزقاق المتعرج الضيق، متحاشية أماكن تجمع المياه الصغيرة، كي لا تتسخ ثيابها، ولكن أولاد الجيران كان لهم رأي آخر، فخرجوا يتسابقون مسرعين، ودفعوها أرضاً ضاحكين. فتبلّلت ثيابها وحقيبتها وتلطخت بالوحل. نهضت بصعوبة، باكية، محاولة تنظيف ثيابها وحقيبتها من دون طائل، ولم يكن بوسعها العودة وتبديلهما لأن جدتها ستوبخها وربما ستضربها، فآثرت أن تكمل طريقها كما هي.

وعندما وصلت المدرسة، توقفت مترددة في الدخول، وعندها سمعت إحداهن تقول لها: «ابتعدي عن طريقي أيتها الحمقاء». التفتت بسرعة، فرأت سارة تنظر إليها وإلى ثوبها المتسخ باشمئزاز، ودفعتها جانباً قائلة لها: «ابتعدي أيتها القذرة».

بكت أمل، قبل أن تسرع إلى دورة المياه لتحاول تنظيف ثوبها وحقيبتها، وقد استغرقها الأمر طويلاً، وعندما انتهت، كانت الطالبات قد دخلن صفوفهن. وبينما كانت سارة تهمس لغادة سائلة إياها وهي تخفي ضحكتها: «أين ذهبت غريبة الأطوار فقد رأيتها عندما أتيت؟».

طرقت أمل الباب مستأذنة المعلمة بالدخول، وبدت مرتجفة برداً بسبب ثيابها المبللة. فأذنت لها المعلمة، بعدما رمقتها متعجبة ومطت شفتيها وقالت من دون مبالاة: «لنكمل الدرس».

جلست أمل إلى مقعدها، وضمت ذراعيها إلى صدرها وهي ترتجف. ما أصعب وأطول الساعات التي تمضيها أمل في المدرسة وحيدة غريبة. فلم يشفع لها ذكاؤها وحرصها على أداء واجباتها عند معلماتها أو زميلاتها اللواتي بقيت في نظرهن أمل حفيدة المرأة الساحرة التي مات جميع أفراد أسرتها بطريقة غامضة، ولم يتبقَّ منهم سوى والد أمل الذي هرب بلا رجعة تاركاً خلفه هذه الفتاة الغريبة.

لم تنسَ أمل الطالبة الجديدة التي أحبتها وعرضت عليها صداقتها، ولكنها أُصيبت بحالة نفسية تركت المدرسة على أثرها فعادت أمل وحيدة.

أخيراً، رن الجرس معلناً وقت الانصراف، فخرجت الطالبات يتسابقن إلى البوابة، فغمزت سارة لغادة بعينها، مشيرة إلى أمل، فما كان من غادة إلا أن ركضت صوبها ودفعتها بقوة مسقطة إياها أرضاً، بعدما خرجت فردة حذائها من قدمها، فقهقهت غادة وسارة التي ركلت فردة الحذاء بعيداً، وهي تركض وغادة تلحق بها.

نهضت أمل بصعوبة، وحملت حقيبتها، وأخذت تبحث عن فردة حذائها حتى وجدتها، وقد تمزقت ولم تعد صالحة للانتعال، فخلعت الفردة الأخرى، وأمسكتهما بيدها، وسارت حافية، حتى شعرت بألم حاد في قدمها، فقد جرحتها قطعة زجاج جرحاً عميقاً، وأخذت تنزف بشدة. فما كان من أمل إلا أن جلست أرضاً محاولة تضميد جرحها النازف بربطة شعرها التي لم يكن معها غيرها، ثم أكملت سيرها تعرج متألمة وتكفكف الدمع. وبعد جهد وعناء وصلت إلى المنزل، وقد تقطر دمها على طول الطريق الذي سلكته، فوجدت الباب مفتوحاً على غير العادة، ولم تكن جدتها هناك.

بعدما بحثت عن جدتها في أرجاء المنزل من دون جدوى، قصدت المطبخ، وضمدت جرحها بمنشفة صغيرة. وعلى رغم جوعها لم تأكل شيئاً بانتظار عودة جدتها، فهكذا كانت معتادة. صعدت إلى الطابق الثاني، ونامت. لقد اعتادت أن توقظها جدتها بعد ساعة من النوم، ولكنها لم تفعل اليوم، وعندما استيقظت وجدت الظلام حل ففزعت وقصدت غرفة جدتها، ولما لم تجدها تساءلت أين ذهبت؟ عندها آلمتها قدمها المجروحة، فجرتها ونزلت إلى الطابق السفلي. وكالعادة كان المنزل يسبح بالعتمة، فأضاءت مصباح المطبخ الصغير، وفكرت قليلاً قبل أن تخرج من المنزل متجهة إلى منزل جارهم أبـي خالد.

ترددت قبل أن تذهب، فلم يكن من عادتها الذهاب إلى منازل الجيران أو التحدث إليهم، لكنّ أبا خالد الساكن الجديد في الحي، كان رجلاً طيباً يعاملها وجدتها باحترام ويشفق عليهما، حتى أن جدتها كانت تبادله الاحترام على غير عادتها مع سائر الجيران، إلا أن زوجته أم خالد لم تكن تحبّ أمل وجدتها. اقتربت أمل من باب منزل جارهم أبـي خالد ثم غيرت رأيها. وقبل أن تذهب خرج من منزله ونظر إليها متعجباً وسألها:

- أمل... هل من مشكلة؟!

فردت أمل بصوت خافت:

- جدتي... ثم أكملت وهي تبكي: عدت إلى المنزل ولم أجدها.

فسألها مشفقاً عليها:

- هل اعتادت الذهاب إلى مكان ما؟!

ردت بصعوبة:

- لا. ثم استطردت: إنها تخرج صباح كل يوم وتعود قبل الظهيرة.

فسألها:

- إلى أين؟! فنظرت إليه أمل وهي تفكر، حقاً إلى أين تذهب جدتي كل يوم. أكمل أبو خالد: حسناً لا تقلقي سأسأل أهل الحي لعل أحدهم شاهدها.

وبينما كانا يتحدثان مرّ سالم فناداه أبو خالد وقال:

- كيف حالك يا سالم ألم ترَ جدة أمل صباح هذا اليوم؟!

رد سالم:

- لا، لماذا؟!

قال أبو خالد:

- لم تعد إلى المنزل منذ الصباح.

فضحك سالم وقال بتهكم:

- ليتها لا تعود أبداً.

فرد عليه أبو خالد غاضباً:

- اتقِ الله يا رجل ما هذا الكلام؟!

فقال سالم وهو ينظر إلى أمل:

- حقاً، ليتها لا تعود حتى نتخلص من شرورها.

فما كان من أمل إلا أن سدّت أذنيها بكفيها وركضت إلى منزلها.

نظر أبو خالد إلى سالم وقال:

- حرام عليك يا رجل.

فرد عليه سالم وهو يغادر:

- حرام على هذه العجوز التي سببت الأذى والألم لأمي بأعمالها وسحرها.

هزّ أبو خالد رأسه آسفاً وهو ينظر إليه حتى ابتعد.

دخلت أمل المنزل، كان كئيباً وهادئاً ومظلماً. فانهمرت دموعها وهي التي كانت تعتقد أنها تكره جدتها، ولن تفتقدها يوماً. وها هي اليوم تكتشف أنها لا تستطيع الاستغناء عنها. بعد قليل أحضرت حقيبتها، وبدأت تكتب واجباتها المدرسية في المطبخ تحت ضوء المصباح الخافت، ثم أخذت فردة حذائها المقطوعة، وأخذت تحاول إصلاحها حتى سمعت صوت طرقات على الباب. فذهبت مسرعة تجر قدمها، لتفتح الباب، فإذا بأم خالد تدخل، وتغلق الباب خلفها، وتمسك بذراع أمل بقوة وتهمس لها قائلة: «أبو خالد في الخارج ينتظر أن تأتي معي. قولي له لا أريد... أفهمتِ؟».

ثم خرجت وقالت لزوجها الذي كان ينتظرها: «إنها لا تريد المبيت عندنا...».

فخاطب أبو خالد أمل وكأنه لم يسمع كلام زوجته:

- لماذا لا تريدين الذهاب معنا يا أمل، لا أستطيع ترككِ في المنزل وحدكِ...

ردت أمل وقد خنقتها العبرة:

- قد تعود جدتي في أي لحظة سأنتظرها.

ثم اتكأت على الباب وهي تمسح دموعها وتقول محدثة نفسها: أين أنتِ يا جدتي؟

ذهب أبو خالد وزوجته إلى منزلهما.

قالت أم خالد:

- هل عرفت أين ذهبت جدتها؟

ردّ وهو يفكر محتاراً:

- لا. ثم أكمل: سألت الجميع، لم يرَها أحد في الحي ولا يعلمون أين ذهبت.

فقالت أم خالد:

- إنها امرأة مخيفة من يجرؤ على سؤالها؟

قال أبو خالد:

- أنا قلق على هذه الطفلة ولا أدري ماذا أفعل.

فنظرت إليه أم خالد وقالت بغضب:

- إنها كجدتها، لا تقلق عليها فهي فتاة جسورة وباردة لا تخاف من شيء. أشكّ أنها تحس أو تشعر...

قاطعها أبو خالد قائلاً بحزم:

- جدتها كرهت الحي وأهله بسبب معاملتهم السيئة لها والقصص التي يحيكونها عنها وعن حفيدتها...

ثلاث خطوات إلى المشنقة

أظمأه ملح السؤال الذي أراد طرحه على ربّه فشعر بملوحة المحيطات في فمه، ومع ذلك ابتسم في وجه الجنديين الممسكين بذراعيه كمن عاد لتوّه من النبع.

أصغى إلى حديث ذينك الجنديين في ذلك الظلام الحالك ثم ابتسم كأنّ ربيعاً لثم وجهه وفردوساً نصب خيامه عليه. بلع ريقه عدّة مرات فلم ينجح في إزاحة طعم الملوحة من فمه.

-الظمأ قصيدة قافيتها الماء.

سالت هذه الجملة التي سمعها من أحد دراويش جزيرة بوطان في ذاكرته.

القافية! آآآآه. كيف لي أن أصل في هذه الليلة الشبيهة بقصيدة سوداء إلى قافية نديّة مضيئة؟

هكذا فكر الشيخ سعيد بيران فيما أمسك به الجنديان وهما يتحدثان عن الماء. قال أحدهما للآخر:

-ألم تظمأ يا؟ لقد التصق لساني بحلقي من شدّة العطش.

وسحب مطرة ماء ملفوفةً بالخيش من تحت حزامه ومدّها له. لم يجب زميله بشيء بل خطف المطرة ورفعها ليدلق الماء في جوفه فأحدثت المطرة بقبقة تبعها صوت الماء ينسكب في المريء.

بدا الجندي الأول وكأنه استحى من الشيخ قليلاً فقال لرفيقه وهو يبتسم ابتسامة خجولاً:

-ألم ترَ ماءً من قبل؟ أم أنت صائم منذ عام؟

وسحب المطرة من يده، رفعها إلى أعلى ودلق الماء في جوفه.

كان الماء المنسكب في فم الجندي يبدو في ضوء نجوم تلك السماء الخرساء كأنه قوس حياة.

-أوووه كـم بارد هذا الماء.

قال الجندي بالتركية بفم يسيل الماء على جوانبه ثم سكب ما بقي في المطرة على جزمتيه.

توجّه الشيخ سعيد إلى أعلى حيث هبط ظلام أشدّ سواداً من جزمتي الجندي على صدر مدينة آمد. كان يريد طرح سؤال على الله، سؤال حاول طرحه عشرات المرات فمنعه الحياء:

-لم يحن أوان موتي بعد. سأطرح سؤالي في حينه.

***

كان غالبية أهل آمد نائمين. لم يضع أحدٌ قبل أن يخلد إلى النوم قبّعة الأسئلة على رأس خياله، لم يسأل أحد نفسه ما الذي يمكن أن يحدث الليلة عند باب الجبل. بقي بعض الناس سهرانين، بعدما تفقدوا دجاجاتهم الراقدة في أقنانها وعرجوا على جرار الماء المغطاة أفواهها بأطباق النحاس، فسكبوا على أبدانهم ماءً ثم تمدّدوا بجانب زوجاتهم وألسنتهم تلهج بالحمدلله حمداً طويلاً.

كانت الديوك نائمة. كانت منكمشة على أنفسها تتدلى أعرافها المخدوشة بسبب عراكها مع ديوك أخرى وكأن الشمس لن تشرق وتشق كبد الظلام بقرونها الذهبية. أما الذين لم يتمكنوا من النوم بسبب البعوض والبراغيث فقد صعدوا أسطح البيوت ونثروا الماء حول أسرتهم التي فرشوها هناك. آخرون أحرقوا روث الماشية في الصفائح لطرد الحشرات المؤذية. بعضهم علقوا جرار فخّار صغيرة مملوءة ماءً بغصن شجرة أو وضعوها على مصاطب مرتفعة حتى يبرد الماء مع أنسام الفجر.

ما من أحد كان ظامئاً ذلك الفجر في آمد سوى ذلك الشيخ الذي أمسك جنديان بذراعيه وهما يقودانه صوب المشنقة.

تلألأت النجوم مثل قطرات الماء التي تطايرت حين انسكب الماء على بسطار الجندي الذي أمسك ذراع الشيخ اليسرى. ثمّ شحب ضوؤها وشارفت على أن تغيب.

رفع الشيخ رأسه قليلاً وصار يبحث عن نجمة الصبح:

ما زال الوقت مبكراً لظهورها.

قال هامساً لنفسه.

مضى الثلاثة ببطء صوب ساحة المشانق.

لم تكن خطوات الجنديين سريعة ولا كانت بطيئة. لكن حطت رغبة فظيعة في النوم رحالها على وجهيهـما. رقّ قلب الشيخ لحالهما وقال لنفسه: «مسكينان. لم يناما جيداً» وأوشك أن يقول لهما: «اعذراني» لكن الملوحة القابعة تحت لسانه منعته.

مع اقترابهما من المشانق أكثر فأكثر زادت الملوحة المعرّشة كشجيرة علّيق في فمه. لم يشأ أن يعلن ظمأه. ما كانت مياه دجلة كلها تكفي لتروي ظمأه.

-يا ولدي.

فجأة خاطب الشيخ الجنديين.

كاد الاثنان يتوقفان لكنّهما استمرا في الإيقاع ذاته من دون أن يردّا بكلمة.

نظر الشيخ إلى الجنديين وأدرك أنهما سمعا صوته لكنهما لا يملكان وقتاً كافياً ليجيباه. كان يريد أن يخبرهما أن حصاة صغيرة موجودة في حذائه لكنه آثر الصمت.

كانت تلك حصاة صغيرة استقرّت بين إصبعين من أصابع قدمه اليسرى. وكانت تؤلمه جداً وتقطع عليه سيل أفكاره. أراد أن يطلب من ذينك الجنديين أن يعيناه على إخراجها لكنه لم يفعل واكتفى بأنّة صغيرة قصيرة مثل ثورته التي أشعلها.

زمّ الجنديّان شفاههـما وصارا يوسعان خطواتهما أكثر.

أسرع الشيخ كي يخفي عجزه وشيخوخته، صار يمشي بالإيقاع ذاته الذي يمشي به الجنديان. كانت يداه المقيّدتان من الخلف تعوقان سرعته، بل أحياناً كانتا تسببان عدم انتظام خطواته حتى كاد يسقط عدة مرات حين تصادمت قدماه. حاول عدة مرات أن يطلب منهما أن يخففا سيرهما لكنه قال في نفسه: «سيظنّان أنني أخاف التوجّه إلى مشنقتي». فلم يفعل.

هبّت نسمة منعشة رخيّة فأزاحت قفطانه الأطلس المزيّن بخطوط عسلية اللون عن ساقين نحيلتين شاب شعرهما. ساقان تقودانه في حلكة ذلك الهزيع الأخير من الليل صوب قدر مظلم بينما تنزف أصابع قدميه دماً قانياً.

-الحياة زقاق وحيد الاتّجاه ينسدّ من الخلف كلما مشى فيه الإنسان.

قال لنفسه.

ومع أنه كان لا يزال يعتقد بأن حياة المرء وموته في يد الله صار على اقتناع راسخ بأن خطواته تلك، الخطوات المتعثرة التي لا يستطيع التحكم بها، تقوده إلى موت محتوم.

آلاف المرات صلّى على الموتى. مشى في جنازاتهم. وقف على شواهد القبور ورأى كيف يغسلون الجثامين. قرأ تلقين بعض من ماتوا. غسل أباه بيديه ولفّ الكفن على جسده. ألقى مواعظ في كثير من مجالس العزاء، كان يردّد دائماً:

-الموت هو الوجه الآخر للحياة. ولا بدّ للمرء من أن يعاين كلا الوجهين.

كان بعض من فجعهـم موت أعزائهم يسألون:

-لم الموت مرٌّ إلى هذا الحدّ يا مولانا؟

-مرارة الموت وعدم مرارته مرتبطان بمقدار حلاوة الحياة في نظر المرء.

-وهل أحلى من الحياة يا مولانا؟ إن الله بذاته جعل الحياة حلوة.

إن كان الظلم هو الخيط الذي يجمع عقد الحياة، فهي لم تعد حياة، إنها ثمرة حنظل في فم المرء.

***

استعدّت آمد لتلقي عن كتفيها العباءة السوداء التي نسجها الظلم بأنامله وترتدي بدلاً منها قفطاناً شفيفاً رقيقاً. كانت تريد أن تستقبل الشيخ بطريقة تليق بمقامه، تحضنه، تحضن عطشه، تلثم الجرح الذي سبّبته الحصاة لإصبع قدمه اليسرى، توقف جريان دجلة وتردم جميع الينابيع والآبار إكراماً لعطشه، ثم تطهر أذنيها بوقع خطواته.

back to top