حبر وورق

نشر في 08-04-2017
آخر تحديث 08-04-2017 | 00:04
No Image Caption
رماد

حين تموت فإن مدة وجودك في المرحلة الأولى لحياتك البشرية تكون قد انتهت، يُهَيَّأ جسدك، تُغسل وتُغطى بالكافور وتعود إلى باطن الأرض، أمك الأولى، بلا متاعٍ سوى غطاء أبيض، وتتهيأ لمرحلة جديدة، مرحلة تعتمد على علاقتك التي ربطتها مع خالقك، تعود إلى باطن الأرض وحيداً، بلا حول لك ولا قوة، كما كنت في بطن أمك ذات يوم وحيداً.

حين كنت في بطن أمك كانت هي من تحاول حمايتك من العالم الخارجي ومن خطورته، ولكن الأمر يختلف تماماً حين تدخل إلى باطن الأرض. ما عادت أمك هي الحامي الأول، قد تكون لا تزال على سطح الأرض فتصلك رحماتها ولكن عملك وحبك لربك هو الحامي الأول. حياة بين حياتين، لا نعرف عنها الكثير إلا يقيننا بالله وحبنا له، عظم ثقتنا فيه وحسن ظننا به.

أحباب رحلوا عنا وتوارت أجسادهم ولكن أجسادهم أبداً حولنا، وكأننا نستمع لأحاديثهم وهم بيننا، نشعر دوماً حين نخاطبهم أننا نخاطب أرواحهم لأنهم ما عادوا يحيون بيننا. نذكرهم في كل يوم أكثر من مرة، نفتقد حديثهم، نشتاق إلى عناقهم، قبلاتهم، نتذكرهم بدعوة تتصاعد إلى السماء، بتلاوة لآيات كثيراً ما كنا نتلوها معاً، علها تؤنس وحشتهم إن كانوا يشعرون بوحشة.

وهنا آخرون يحيون بيننا وهم شبه أموات، حيث عواطفهم باتت مجمدة، وإيمانهم بجمال الحياة من منظورهم بات رماداً تذروه الرياح. لا يرون الحياة إلا مكاناً للصراع والبقاء فيه للأقوى، من بين خضم الأفكار يؤمنون بفكرة واحدة يرون أنها الحق المطلق. وهبوا أنفسهم لهذه الفكرة دون سواها وحرموا أنفسهم من نعمة التفكير والتأمل في ملكوت الله من حولهم.

ولم يكتفِ تنطعهم على ذواتهم، ولكنهم استخدموا حب الناس للدين فبدأوا بابتزاز الناس ديناً، فجعلوا الناس ينظرون إلى أنفسهم بعين العاصي المخطئ المبعد من رحمة الله، وجعلوا العودة إلى الحق محصورة في طريق من اختيارهم، وأشاعوا أنه الطريق الحق.

الحق المطلق واضح وضوح الشمس، وهو أن الله الملك الحق خلق الكون وجعل من سننه الاختلاف، وبالتالي فإن اختياراتنا في الحياة مرتبطة بقناعاتنا وتجاربنا وإيماننا بخالقنا. وبالتالي فإن تحديد طريق واحد بعينه على أنه الحق المطلق مسألة فيها خطورة كبيرة على المجتمع البشري.

فالحق المطلق كما الحرية المطلقة، يخضع لقوانين المجتمع.

****

زحفت الشمس نحو المغيب، توارت عن الأنظار تدريجيّاً، حمرة الشفق زينت الأفق، وعمرت الأعشاش بطيورها العائدة بعد يوم طويل أمضته تحلق في السماء. عاد الحمام إلى بيته في ركن قصي في حديقة السيد عبد الجليل، فتح الحارس (عزمان) بوابة المنزل على مصراعيها، وضغط على أزارير بعينها ليشعل سلسلة من الأنوار متدلية من سطح المنزل حتى أسواره الخارجية، رغم مضي عقدين له في هذا البلد لم يستطع أن يربط بين العزاء والأنوار.

بالنسبة إليه كانت الإضاءة تعني الفرح والحبور، في قريته النائية في إحدى جزر الأرخبيل الأندونيسي، كانت إنارة (لمبة) في شارع قريته المظلمة تقترن باحتفالات العيد والمناسبات المهمة، حي بأكمله تنيره بضع لمبات في أوقات معينة خلال العام.

لليوم الثالث على التوالي، وضع شريط شيخ (أبو بكر الشاطري) في الجهاز، تأكّد أن الصوت هادئ، سماعات الفناء الخارجي كثيراً ما كانت تردد تراتيل آيات القرآن لا سيما في الصباح حين كانت السيدة هيفاء تقوم بهرولتها الصباحية في مضمار الجري في الجهة الخلفية من حديقة المنزل، حيث تم تغيير تصميم الحديقة لتستوعب المضمار الداخلي الذي يفصل بينه وبين المسبح البيضاوي جلسات متنوعة وأشجار متناغم غرسها.

للحديقة الخلفية روتينها الخاص في الترتيب والتنسيق، فما كان عزمان ليدخلها إلا بعد الساعة العاشرة صباحاً، حيث يزيل الأوراق المتساقطة وينظّف مياه المسبح، ليغادرها بعد ساعتين أو ثلاث ويحكم إغلاق الباب من ورائه. كان لسكان البيت طقوسهم الخاصة، وكان عزمان يحمد ربه ليل نهار أن قدره ساقه للعمل هنا.

رن هاتفه الجوال، نظر فوجد رقم ابنته، ابتسم ابتسامة واهنة، كانت ابنته تبكي رحيل سيدتها بكاءً حارّاً، فهي أتت للعمل هنا منذ عامين، وتعلّقت تعلقاً شديداً بالسيدة هيفاء وابنتها. بعد رحيل والدتها لم يستطع عزمان أن يترك ابنته هناك وحيدةً، كما أنه كان قد تعلق بعمله هنا، فعقدان ونيف من الزمن كانا كفيلين بجعله يشعر بالانتماء.

«أبـي، (ماما كبيرة) يقول أقفل قرآن وقت صلاة» جاءه صوت ابنته ومن خلفه أصوات نساء متمازجة، كان يسمع من بينها صوت أمي كبيرة كما اعتاد الجميع على مناداتها، كانت كثيراً ما توبخ (تاتي) ابنته حين بدأت في الخدمة، وكأن الفتاة كانت بحاجة إلى من ينبهها إلى أنها غريبة عن هذه البيئة، لكن ابنتها السيدة هيفاء كانت دوماً هناك لتخفف من ألم الفتاة الجديدة، التي جاءت لتلحق بوالدها في بلد غريب لم تكن تسمع عنه إلا من والدها وصديقات والدتها اللاتي كانت لهن تجارب متضاربة في بلد يشبه في حكاياته الأساطير... كانت تاتي محظوظة جداً، فقد قالت (ماما كبيرة)، إنها لا تريد من هذه الفتاة أن تكون بديلاً عن خادمتها التي انحنى ظهرها، وابيض شعرها، وباتت هي نفسها بحاجة إلى من يخدمها.

فما كان من السيدة هيفاء إلا أن قالت إنها تحتاج إلى فتاة لا سيما مع ظروف مرضها الذي بدأ يعوق حركتها أخيراً، يومها قالت (ماما كبيرة):

«هذه الفتاة ليست للخدمة، لقد دفع عزمان مال قلبه لتتعلم جيداً». وتابعت: «لا أعلم ما الذي حدا به إلى طلب استقدامها كخادمة؟! ولا أعلم كيف استطاع إقناعك؟ لو كان الأمر بيدي لطلبت منه أن يجعل الفتاة تكمل تعليمها».

ابتسمت هيفاء وقالت: «ماتت أمها يا أمي.. وهي كما قلت فتاة متعلمة لن يكون من الصعب تعليمها ما نريد، ثم إن عزمان يريدها بالقرب منه ليطمئن عليها، ولولا أنه يعلم أنها ستكون سعيدة معنا لما أحضرها».

تعلمت تاتي كما قالت هيفاء، وأصبحت قادرة على فهم طلبات السيدة الكبيرة إلى حدٍّ ما، منزلتها الخاصة لدى هيفاء جعلتها موضع تندر وحسد بين طاهية المنزل والخادمتين، إحداهما كانت مسؤولة عن تنظيف الطابق الأرضي بما في ذلك مداخل المنزل والدرج المؤدي إلى الطابق الأول، فيما كانت الأخرى مسؤولة عن الطابق الأول وكي الملابس وغسلها تساعدها في المهمتين الأخريين تاتي، بينما تساعد الطاهية الخادمة المسؤولة عن الطابق الأرضي.

«حاضر» عاد عزمان إلى الواقع وهو يجيب ابنته، ثم سألها: «كيف حال الآنسة تولين؟». كان يفكر في الفتاة الصغيرة التي طالما أوصلها إلى الروضة ثم المدرسة، والتي أصبح السائق الجديد يوصلها الآن إلى الجامعة. كانت تولين وهي صغيرة لا تملّ من طرح الأسئلة، كانت تتنفس الكلام، منذ أن تركب السيارة وحتى تصل إلى مدرستها، سيل من الأسئلة لا يتوقف. وكانت حصة الأسد من هذه الأسئلة من نصيبه، قبل أن توجّه السيدة هيفاء أسئلة ابنتها إلى مسار آخر، أو تطرح سؤالاً عليها، فيعم الصمت لبرهة من الوقت. «أوه بابا، يبكي كتير، يبكي كتير». عندها سمع صوت السيدة الكبيرة تنادي ابنته، فودعته بسرعة وأنهت المكالمة.

تعالى صوت الأذان، وبدأت السيارات تقف تباعاً أمام بوابة المنزل، أخذت السيدات تسرن باتجاه المدخل، قرقعة كعوب أحذيتهن مختلفة بحسب علو الكعب وحجم صاحبته، فيما اتخذ عزمان مكانه على كرسيه المفضل على الجانب الأيمن من البوابة الرئيسة، كان (أنصوري) السائق الجديد قابعاً هناك، ما إن رآه حتى لوّح بيده، ثم انصرف باتجاه المسجد القريب.

كانت تعليمات السيد عبد الجليل واضحة جداً، عليهما أن يحددا وقتاً بينهما يتناوبان فيه لأداء صلاة الجماعة في المسجد القريب حين يكون أصحاب المنزل في استقبال ضيوف قادمين، أو أي زائر عابر.

***

«الدنيا ما لها أمان... ماتت هيفاء وتركت كل هذا النعيم وراءها».

قالت إحدى المعزيات لرفيقتها وهما تقتربان من بوابة المنزل الخشبية، كانتا تصعدان الدرج الرخامي الذي بدأت إضاءته الخافتة تنعكس على أقدام القادمات. اشتد توهج الأنوار، وازدادت الحشرات الطائرة حولها مع حلول الظلام.

أجابتها رفيقتها فيما كانت تنزل غطاء رأس سكري من الدانتيل من حقيبة يدها لتستبدل به الأسود الذي كانت تضعه:

«لم تمهلها الدنيا... المرض أخذ شبابها».

نظرت إليها رفيقتها ثم قالت بتهكم:

«شبابها؟ ابنتها يا حبيبتي الآن في الجامعة».

ردت رفيقتها وهي تحكم وضع حجابها السكري، وتتأكد من ظهور مقدمة شعرها مقدار أصبعين من أصابع يدها الممتلئة:

«وإن يكن، لا يمكن للناظرة أن تعطي هيفاء عمراً يزيد عن الخمسة والثلاثين».

أومأت صديقتها موافقة ثم قالت:

«يا حبيبتي، هذه فائدة الحياة بلا زوج ولا هم».

تنفست بحدة ثم تابعت:

«تزوجت صغيرة، ثم طُلقت، ربت ابنتها وشقت طريقها بنجاح... كنا في المدرسة سوياً».

فُتح مدخل البيت، خرجت إحدى المعزيات، سكتت الرفيقتان عن الكلام، وهما تدخلان المنزل، كانت رائحة البخور تفوح من الداخل، وأنوار الثريات مشعة، ألقت إحدى الرفيقتين نظرة خاطفة حولها. رفعت حاجبها وهي تنظر إلى بهو الاستقبال، أشارت إليهما إحدى الخادمات إلى صالة حيث تستقبل والدة هيفاء المعزيات.

كانت تولين تقف في صف العزاء وعيناها محمرتان كالجمر من شدة البكاء، وكانت تشعر بالحرارة تشع من عينيها. في بداية صف العزاء جلست جدتها، وإلى يسارها أخواتها الثلاث ثم اثنتان من زوجات إخوانها وعدد من بنات أخواتها ثم هي. ما إن انتهت مجموعة من المعزيات من السلام عليهن حتى قامت جدتها وعدد من بنات أخوتها للصلاة.

نزهة عائلية

حكّ مأمون الجزار أنفه بظاهر كفّه متحاشياً أن يلطخه ببقايا دم الثور اليافع الذي طرحه أرضاً وذبحه، وظلّ يراقب انتفاضاته الأخيرة بشفقة لا تشاهد عند غيره من الجزارين، وانتظر خروج جيرانه ليساعدوه في رفع الحيوان إلى أعلى العتبة الخشبية القابعة عند المدخل، لقاء رطل أو رطلين من اللحم نظير خدمتهـم، وفي الغالب يكون زين المقهوي وحمود البقال هما اللذان يساعدانه، لأنهما يخرجان دائماً قبل شروق الشمس. وبعدما ساعداه على تعليق الحيوان على العتبة بواسطة الحبال الحيسيّة المتينة، سلخ جلده بيدين ماهرتين، وتخلّص من قاذورات الكرش والأمعاء، ورمى الذيل بحركة عصبية إلى داخل الحانوت، لأنه يحتاج إليه طوال اليوم لزجر الحشرات المقيتة عن اللحم المكشوف. ولم يغفل عن وضع رأس الثور المقطوع في مكان بارز في الخارج ليرى المتسوقون نوع الذبيحة التي سيبتاعون لحمها، فقد راجت أخيراً إشاعات عن جزارين يقدمون لحوم الحمير والكلاب، على أنها لعجول وخرفان. ولهذا السبب ألزمه المتسوقون على إبراز الرأس أمام الأنظار.

كانت آخر خطوة قام بها قذف المخلّفات في الأرضية الخلفية لمنزله، وحين عاد أسند ظهره المتصلب العريض إلى جدار حانوته الطينيّ المتماسك، وتنفس الصعداء مطلقاً زفيراً متعباً يطلقه على الدوام في مثل هذه اللحظة، ويظل بعض الوقت ينتظر قدوم إفطاره، تحمله له زوجته زعفران، وتضعه على الأرض من دون كلام: فتة دخن حارّة، أو خبز أبيض ساخن وقهوة قشر وقليل من الفول أو العدس في آنية معدنية متفحمة، وتكون امرأته هادئة سادرة كطفلة أفاقت لتوّها من النوم، فيأكل في الخارج وهي تكنس الحانوت وتنظّفه، ثم تنسحب من دون تعليق، هكذا تفعل كل أربعاء، فيهزّ رأسه بأسف ويكلم نفسه متأوهاً: ليتها تظلّ صامتة بقية اليوم، لكن الجمر يختبئ تحت الرماد.

أثناء تناوله الطعام، يبدأ جسده الضخم المنهك العضلات بالاسترخاء، ويستقبل تيارات الهواء الباردة، فيجف العرق فوق بشرته السمراء مكوّناً طبقةً مصقولة لامعة تشبه ودك شحوم الحيوانات، بحيث تظهر وامضةً بوضوح على جبينه حين يغمر سدة ضوء النهار.

بدا السوق مكسواً بفيض دافئ من أشعة الشمس الشارقة، وهو منتصب بموضعه المخصص إلى جانب حيوانه المسلوخ. الميزان ذو الكفتين النحاسيتين يظهر على سطح المصطبة الخشبية، والمقطعة الحادة قريبة من كفه ممددة على الخشب المصقول، وهكذا يبقى متأهباً ليلبي طلبات أي زبون بسرعة قياسية، مع ذلك لم يقترب منه أيّ متسوق. استرخى قليلاً في وقفته المتحفزة، وأخذ يسرّي عن نفسه مفكراً باطمئنان، لا يزال الوقت مبكراً، فمن ذا الذي يحتمل رؤية اللحم أو شم رائحته في مطلع الصباح؟ ما زالت البطون متخمة بالفطور، ولن يفكر رجال القبائل في ابتياع مؤونة الغداء إلا حين تفتك بهم حرارة الشمس والجوع، عندئذ يهبّون إلى الحانوت زرافات، ويتزاحمون بلا نظام عند المدخل، وقد تحدث منازعات وشجارات، لا سيما إن كانوا من قبيلتي آل طعيم وآل شهوان. لكن ثمة من يفضلون ابتياع اللحم في مثل هذا الوقت أولئك هم أبناء القرى البعيدة أو الأشخاص الذين يكرهون الزّحام والضجيج، أين هؤلاء الرجال الطيبون؟ أين هـم اليوم؟ لا أحد...

نفخ مأمون الهواء المحبوس في صدره بضيق، وشغل نفسه بالنظر إلى وجوه المتسوّقين المتوافدين إلى السوق بسياراتهـم التويوتا العتيقة.

أثارت انتباهه سيارة مكشوفة بيضاء ذات دفع رباعي تتقدم ببطء وحذر حتى توقفت في ركن مترب موارب من الباحة. ظهر على صندوقها الخلفي عدد من رجال القبائل مقرفصين، رؤوسهم منكوشة ملبدة، وأيديهـم متصلبة على مقابض بنادقهـم الكلاشينكوف، وسرعان ما قفزوا بعجلة إلى الأرض ساترين أسلحتهم بأطراف ثيابهـم، واختفوا وراء هيكل السيارة البيضاء.

لم يكن لديه قدر من الكياسة كي ينتبه إلى أنّ حمل السلاح في السوق ظاهرة مستهجنة في أعراف القبائل القاطنة في تلك المنطقة، ولهذا السبب بدا الأمر مريباً وغريباً، فدفعه الفضول إلى مراقبتها. كانت ببساطة تحت مرمى نظره، أمامه تماماً، واقفة بالعرض بشكل يوحي أنها متأهبة للمغادرة، زجاج مقدمة السيارة موصد، وخلفه شخصان أو ثلاثة لم يتزحزحوا من أماكنهم. أزعجه بقاؤهم ثابتين متوارين عن الأنظار وكلم نفسه بأن أمثال هؤلاء المسلحين المزعجين لا يبغون التسوّق، ولا أمل في الاستفادة منهـم في هذا اليوم.

كان يقف قرب المدخل خلف الثور اليافع المسلوخ المقلوب للأسفل: لا يزعجه شيء سوى الذباب الطنان ذي الأجنحة الزرقاء، الذي يحوم على اللحم العاري القرمزي اللون فراح يهشه بواسطة ذيل الثور المسلوخ بحركات عصبية مألوفة من كفه الثخين النافر العروق. مع ذلك لم يصرف عينيه عن السيارة المكشوفة، وما زال كذلك ينتظر قدوم الزبون الأول، وهو فاتحة الرزق وطالما يحظى بقطعة كبيرة تشجيعية من لحم الفخذ. أخيراً رأى رجلاً يقترب نحوه بمثابرة فاستقبله بنظرة ناعمة متملقة، ومدّ كفه وتناول المقطعة وتأهب، لكن قبل أن ينطق الزبون اقتربت سيارة أخرى مقفّصة، وتوقفت في مكان غير بعيد عن السيارة البيضاء. ترجل منها نقيب قبيلة آل طعيم وانضم إليه فتى صغير بدأ يحدق إلى ما حوله باهتمام وتهيب، وكأنه يزور السوق لأول مرة، وهبط وراءها تابعان قبليان مرافقان همسا للنقيب شيئاً، وبادلهما بعض الكلمات، وهزّ رأسه موافقاً فغادرا المكان بهدوء، وغاصا في زحام السوق.

ظلّ نقيب القبيلة بموضعه قرب السيارة يردّ على تحيات المتسوقين رافعاً صوته المبحوح، وكأن لا عمل لديه سوى لفت الأنظار إلى شخصه المرموق، وجذب صوته المميز المتسوقين، وحظي بانتباه، وسرى الاهتمام إلى مأمون، فالنقيب أرحب آل طعيم زبون ميسور يبتاع كمية كبيرة من اللحم، ويدفع بسخاء.

تهلّل وجهه حين خطر هذا في ذهنه، وفي الوقت نفسه أحسّ بشيء من التوتر، ونظر بقلق إلى حيث كانت السيارة البيضاء واقفةً، وسأل نفسه: أين اختفى أولئك الرجال؟ وما يدعوهم إلى حمل أسلحتهم والحرص على إخفائها خلف أثوابهم؟

لم يكترث لزبونه الأول الذي بدا عليه الغضب بفعل تقاعسه عن خدمته، وانشغاله بالنظر إلى الخارج، وصرخ في وجهه طالباً اللحم، فرد بصره إليه بضيق واضح، ومدّ ذراعه إلى الفخذ ليقطع، في هذه اللحظة دوى صوت إطلاق نار كثيف، فاتجهت عيناه على نحو غريزي إلى حيث كان نقيب القبيلة واقفاً، فرآه يهوي أرضاً، بينما ركض الفتى الصغير، وغاص بين الجموع المتدافعة. كان المتسوقون يفرّون في كل اتجاه على غير هدى أو صواب، واختفى زبونه أيضاً من أمام الحانوت، وأتاح له موقعه المتفرّد أن يرى ما يحدث.

back to top