النباتات... هل تحمل مستوىً من الوعي؟

نشر في 07-04-2017
آخر تحديث 07-04-2017 | 00:00
No Image Caption
في الفيلم الشهير Avatar، يغزو البشر قمراً مزدهراً تسكنه كائنات «نافي» الفضائية التي تحمل بشرة زرقاء وتعيش هناك بتناغم مع الطبيعة. تدمّر القوات العسكرية البشرية مسكنها رغم اعتراضات تنذر باحتمال أن تؤثر هذه العملية في شبكتها الحيوية التي تربط بين كائناتها. عشية المعركة الكبرى، يتواصل بطل القصة جايك عبر رابط عصبي مع «شجرة الأرواح» التي تتكلم نيابةً عن كائنات «نافي».
نحن نفكر بالزمن والوعي بالمستوى البشري. لكن النباتات، كالبشر، مزوّدة بمستقبلات وأنابيب دقيقة وأنظمة معقدة بين الخلايا يمكن أن تُسهّل درجة الإدراك الزماني والمكاني. يشير الفيلم إلى أننا لا نفهم الطبيعة الواعية للحياة التي تحيط بنا.
صحيح أنني شاهدتُ Avatar ثلاث مــــرات، لكـــني مازلت أمتعض حين يخبرني أحد بأن النبتة تحمل مستوىً من الوعي. لما كنت عالِم أحياء، فيمكن أن أتقبّل وجود الوعي لدى القطط والكلاب وحيوانات أخرى لها أدمغة معقدة. في هذا السياق، تشير الدراسات إلى أن الكلاب تسجّل مستوىً من الذكاء والوعي، بقدر طفل بشري في عمر السنتين أو الثلاث سنوات.

عام 1981، نشرتُ مع عالِم النفس ب. ف. سكينر من جامعة هارفارد دراسة في مجلة «ساينس» تثبت أن الحمام أيضاً يحمل جوانب معينة من الوعي الذاتي. لكن ماذا عن النباتات أو الشجر؟ بدا لي التفكير بهذا الاحتمال أمراً سخيفاً... حتى ذلك اليوم!

ثم تذكرتُ حلقة من مسلسل Star Trek بعنوان Wink of Eye (غمزة عين). يبث فيها الكابتن كيرك الضوء على كوكب ويجد مدينة خاوية. لكن تقتصر آثار الحياة هناك على طنين غامض تصدره حشرات غير مرئية. حين يعود إلى المركبة، يتابع طاقم العمل سماع الطنين الغريب نفسه، ثم يلاحظ كيرك فجأةً تباطؤ حركة فريقه إلى أن تتوقف نهائياً، وكأن أحداً يتلاعب بالزمن. لكن تظهر امرأة جميلة وتشرح له أن طاقم العمل لم يتباطأ بل إن إيقاعه الخاص تسارع بعدما أصبح متطابقاً مع الوجود المادي المتسارع بدرجة فائقة. في الوقت الحقيقي، يلاحظ سبوك والدكتور ماكوي أن الطنين الغريب يشير إلى محادثات فائقة السرعة بين الكائنات الفضائية الموجودة خارج نطاق الفيزياء الطبيعية.

نحن نفكر بالزمن (وبالتالي الوعي) بطريقة بشرية. في عقلي، يسهل أن أسرّع سلوك النباتات كما يفعل عالِم النبات بالصور التي تفصل بينها فترة زمنية. تفاعل الكائن المغطى بالريش في محميّتي مع البيئة المحيطة كما تفعل اللافقاريات البدائية. لكن لم يقتصر الوضع على ذلك. نحن نعتبر الزمن سلعة أو مصفوفة غير مرئية تتابع العمل بغض النظر عن وجود الأجسام أو مظاهر الحياة. لكن لا يوافق مفهوم المركزية الحيوية على هذه الفكرة. الزمن ليس سلعة أو غرضاً جامداً، بل إنه مفهوم بيولوجي مرتبط بما تفعله الحياة للتواصل مع الواقع الملموس. الزمن موجود نسبةً إلى المراقب.

لنفكّر بالوعي البشري. من دون العيون والآذان أو أي حواس أخرى، يمكن تشغيل الوعي ولو بشكل مختلف بالكامل. حتى من دون الأفكار، سنحافظ على وعينا مع أن صور الناس أو الأشجار لن تحمل أي معنى حينها. لن نتمكن من التمييز بين الأجسام لكننا سنختبر العالم وكأنه نطاق من الألوان المتبدلة.

مثل البشر، النباتات مزوّدة بمستقبلات وأنابيب دقيقة وأنظمة معقدة بين الخلايا يمكن أن تُسهّل نشوء درجة من الوعي الزماني والمكاني. بدل إنتاج نمط من الألوان، ترتدّ جزيئات الضوء عن النبتة وتنتج نمطاً من جزيئات الطاقة (السكر) في الكلوروفيل على مستوى جذوعها وأوراقها. تؤدي التفاعلات الكيماوية التي تحفّز الضوء في ورقة واحدة إلى إطلاق سلسلة متلاحقة من الإشارات في الكائن الحي كله عبر حزم وعائية.

شبكات عصبية بدائية

اكتشف خبراء علم الأحياء العصبي أن النباتات تشمل أيضاً شبكات عصبية بدائية وتستطيع تكوين مفاهيم أولية. مثلاً، تلتقط نبتة القسط الهندي الحشرات بدقة مدهشة، بما يفوق قدرة مضرب الذباب. حتى أن ثمة نباتات تعرف متى يتّجه النمل نحوها لسرقة رحيقها لذا تستعمل آليات كي تغلق نفسها حين يقترب النمل منها. وفق اكتشافات العلماء في جامعة كورنيل، حين تبدأ الدودة المقرّنة بأكل نبتة المريمية، تطلق النبتة المتضررة رائحة قوية لتحذير النباتات المحيطة بها (استُعمل التبغ البري في الدراسة) من الخطر المرتقب. نتيجةً لذلك، تُحَضّر تلك النباتات دفاعات كيماوية وترسل كائنات جائعة في الاتجاه المعاكس. وصف الباحث الأساسي أندريه كيسلر هذه الظاهرة بـ«تشغيل الرد الدفاعي»: «قد تكون هذه العملية آلية أساسية على مستوى التواصل بين النباتات».

حين كنت أجلس في المطبخ في ذلك اليوم، اخترقت أشعة الشمس الصباحية النوافذ العليا وغمرت الغرفة كلها بشعاع ساطع. سررنا أنا وشجرة ملكة النهار لأن الشمس أشرقت».

تطورات

منذ سنوات تغيّرت المواقف في الأوساط العلمية مثلما تغيّر موقفي من خصائص النباتات واقتنعتُ بأننا حصرنا نفسنا سابقاً في مفهوم «الحياة الواعية». أصبح هذا الموضوع متداولاً على نطاق واسع بفضل أشخاص كالأستاذ مايكل بولان من جامعة كاليفورنيا – بيركلي. كتب في هذا المجال أن علم النبات يثبت بشكل متزايد وجود درجة عالية من الذكاء النباتي.

تشير هذه التطورات كلها إلى تجدد الفكرة الغريبة التي انتشرت في الستينات واعتبرت أن النباتات تردّ علينا إذا تكلمنا معها. حين انطلقت الحركة البيئية خلال العقود اللاحقة وبدأت الغابات تُعتبر أكثر من مجرّد مصدر للخشب الخام، حمل المدافعون عن مملكة النباتات صفة «المحافظين على الأشجار» لكن بمعنى سلبي.

مهّدت هذه المعطيات لظهور مجال علمي جديد اسمه «علم الأحياء العصبي النباتي» لكن كانت انطلاقته مثيرة للجدل: حتى أكبر داعمي النباتات لا يدّعون أن النباتات مزوّدة بخلايا عصبية، فكيف يمكن تقبّل وجود أدمغة فيها؟

أوضح بولان في مقالة نُشرت في صحيفة «نيويوركر»: «تحمل النباتات هياكل موازية وتأخذ البيانات الحسية التي تجمعها في حياتها اليومية... وتدمجها ثم تتفاعل بالطريقة المناسبة. تقوم النباتات بهذه العملية من دون الحاجة إلى دماغ. هذا ما يجعل عملها مدهشاً لأننا نفترض تلقائياً أننا نحتاج إلى دماغ لمعالجة المعلومات».

الوعي والأصوات

الخلايا العصبية ليست ضرورية لإقامة تواصل بين الخلايا ولا حتى لمعالجة المعلومات وتخزينها! في عام 2012، أصر عالِم النبات دانيال شاموفيتز في مقالة أميركية علمية بعنوان «هل تفكر النباتات؟» على أن الأخيرة «ترى وتشعر وتشمّ وتتذكر». لكن كيف يمكن أن يحصل ذلك من دون وجود خلايا عصبية؟

أوضح شاموفيتز: «حتى بالنسبة إلى الحيوانات، لا تُعالَج المعلومات كافة أو تُخزَّن في الدماغ حصراً. تبرز أهمية الدماغ في عمليات المعالجة التي تكون عالية المستوى لدى الحيوانات الأكثر تعقيداً، لكن لا يحصل ذلك مع الحيوانات البسيطة. تتبادل أجزاء مختلفة من النباتات المعلومات على المستويات الخلوية والفيزيولوجية والبيئية. يتوقف نمو الجذور مثلاً على مؤشر هرموني يظهر في أطراف الجذوع بينما ترسل الأوراق إشارات إلى طرف النبتة وتأمره ببدء إنتاج الأزهار. استناداً إلى هذه النظرية، النبتة كلها موازية للدماغ. قد لا تملك النباتات خلايا عصبية، لكنها قادرة على الإنتاج وتتأثر بمواد كيماوية نشطة عصبياً!».

لكن ماذا عن اختبار الوعي والأصوات؟ نفترض أننا نعجز عن سماع أي صوت من دون الأذن. لكن وفق مقالة بولان في صحيفة «نيويوركر»، سجّل الباحثون نشاط النباتات، حين تمضغ اليرقات أوراقها وتتفاعل معها النبتة، فتبدأ بإفراز مواد كيماوية دفاعية».

يدّعي بولان وآخرون أن النباتات تحمل الحواس البشرية كافة فضلاً عن حواس أخرى. حتى أنّ لديها ذاكرة ولا تكتفي بإبداء ردود فعل بسيطة. في هذا السياق، قال شاموفيتز: «النباتات مزوّدة طبعاً بأشكال مختلفة من الذاكرة كالبشر. لديها ذاكرة قصيرة الأمد وذاكرة مناعية وحتى ذاكرة عابرة للأجيال! أعرف مدى صعوبة استيعاب هذا المفهوم بالنسبة إلى بعض الناس لكن إذا كانت الذاكرة تتطلّب تشفير المعلومات وحفظ الذكريات (تخزين المعلومات) واسترجاعها (استعادة المعلومات)، فلا شك في أن النباتات تتذكّر».

الوعي بطريقة مختلفة

من الطبيعي أن نعتبر البشر رمزاً للذكاء الواعي. يضيف معظم الناس ثدييات أخرى إلى هذه الفئة، لا سيما القطط والكلاب وحيوانات أليفة أخرى يفضّلها البشر. لكن هل يرتبط هذا الانحياز بكل بساطة بالبحث عن خصائص مألوفة، بمعنى أننا نتعرف إلى الوجوه بطريقة لا يمكن تطبيقها مثلاً عند مشاهدة الديدان؟ أم أننا نعتبر وجود الدماغ شرطاً مسبقاً للانضمام إلى فئة النخبة؟

يمكن تقدير الزمن نسبةً إلى المراقب. رغم أفكارنا البشرية المسبقة قد تختبر الحيوانات الدنيا، وحتى النباتات، تجربة الوعي ولو بطريقة مختلفة جداً. تتوقف علاقات الزمان والمكان على جهاز كشف كامل، حتى لو كان ذلك المنطق متشعباً ولا يتركز في بنية شبيهة بالدماغ. من الواضح أن النباتات تستعمل آلية مختلفة عن الدماغ لحفظ المعلومات وتسجيلها، لكن يمكن تقدير الزمن نسبةً إلى المراقب ولا داعي لتشغيله في الإطار الزمني البشري. وفق مفهوم المركزية الحيوية، يشكّل الزمن عاملاً ذاتياً بالكامل من الناحية البيولوجية ويرتبط دوماً بعملية نسبية وأحادية. تشتق المعارف كافة من العلاقات القائمة بين المعلومات ويستطيع المراقب وحده أن ينقل معناها نسبةً إلى الزمان والمكان. لما كان الزمن غير موجود خارج نطاق الإدراك، فلا تختبر النباتات أيضاً تجربة «ما بعد الموت»، باستثناء موت بنيتها الفيزيائية في الزمن الحاضر. لا يمكن أن نقول إن مراقب النباتات أو الحيوانات يظهر أو يختفي أو يموت لأنها مجرّد مفاهيم زمنية.

لطالما تساءل الناس عن قدرة النباتات على «الشعور» مع أنها تدرك بكل وضوح مفاهيم كالجاذبية ومصادر الماء والضوء. من الواضح أيضاً أنها تستوعب تلك المفاهيم بطرائق مختلفة جداً عن الثدييات أو حتى أشكال الحياة «الأقل مستوى». مثلاً، ترصد الضفادع وبرمائيات أخرى الضوء عبر الخلايا الصبغية في بشرتها كي تتمكن من تكييف غطائها مع خلفيات مختلفة. كذلك تُعدّل عصافير الدوري إيقاع ساعتها البيولوجية من دون استعمال عينيها، إذ يمكن أن تستشعر الضوء عبر الريش والبشرة والعظام! تقوم الفئران بالمثل حتى لو كانت عمياء.

من الواضح أن أشكال الحياة التي تفتقر إلى العيون، كالنباتات، تتكل حصراً على أنواع أخرى من الوسائل الحسية لاختبار الواقع. لإدراك الزمن في العالم، تشمل الطرائق المستعملة استشعار الضوء والتجاوب معه بطريقة غير بصرية. في ما يخص الحيوانات العليا، يواكب دماغها مسار الزمن. لكن لا تملك النبتة أي دماغ، لذا لا بد من تخزين المعلومات و«الذكريات» بطرائق أخرى، ربما بالطريقة التي تسمح للنبتة بتحديد وجهة نموها.

نطاقنا الزمني البيولوجي

لا تزال الطريقة التي يستعملها البشر لتسجيل إحساسهم بالزمن غامضة. لذا من الأصعب أن نحدد ما تفعله النباتات لتطوير تلك المعلومات كلها وتعديلها كي تلبّي حاجاتها إلى الصمود. لما كان مرور «الوقت»، في مرحلة التحليل النهائي، مجرّد أداة تبتكرها الكائنات الحية وتستعملها لإدراك ما يحصل من حولها والرد بفاعلية على تدفق العوامل البيئية الملموسة، فمن الواضح أن النباتات أبلت حسناً كي تصمد طوال 700 مليون سنة.

عموماً، نعتبر الكائن واعياً إذا كان يتكلم أو يتجاوب معنا وفق النطاق الزمني البيولوجي الذي يستعمله البشر. لكننا نحتاج إلى تعلّم دروس كثيرة بعد عن طبيعة الحياة انطلاقاً من بيئة «نافي» الخيالية حيث تتمتع النباتات بحاسة لمس مبالغ فيها وتستطيع التواصل عبر «نقل الإشارات».

تقول جودي هولت، اختصاصية في وظائف النبات في جامعة كاليفورنيا، «ريفرسايد»: «كانت النباتات في الفيلم مزيفة لكنّ العلم الذي يدرسها حقيقي».

النباتات مزوّدة بأنظمة معقدة بين الخلايا تُسهّل نشوء درجة من الوعي الزماني والمكاني لديها

نبتة القسط الهندي تلتقط الحشرات بدقة مدهشة تفوق قدرة مضرب الذباب

النباتات تستعمل آلية مختلفة عن الدماغ لحفظ المعلومات وتسجيلها

النباتات أبلت بلاءً حسناً كي تصمد طوال 700 مليون سنة
back to top