لندن في عصر الإرهاب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي...

مدينة تختصر العالم!

نشر في 30-03-2017
آخر تحديث 30-03-2017 | 00:00
No Image Caption
تتعدّد الأسباب التي تجعلنا نكره لندن: الطقس، وازدحام السير، والضجة، والإيجارات المريعة، والجشع، واللامبالاة، والروس في «مايفير»، والفرنسيون في «نوتينغ هيل»...
لكن حين تشرق الشمس للحظة وتجلس امرأة مبتسمة أمامنا في قطار الأنفاق ونحصل على بطاقة لحضور العرض الأول لإحدى المسرحيات، ننسى تلك المظاهر المزعجة كلها. في لحظات مماثلة، ندرك أنّ أي مكان آخر في العالم لا يضاهي هذه المدينة في الحماسة أو التهذيب، ويستحيل أن تعطينا أية مدينة أخرى ما نجده هنا رغم الإرهاب وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والفوضى المستمرة.
تُعتبر لندن مركز العولمة ومعقل الأموال والإبداع وتعارض الرؤية الضيقة المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أنها أفضل مدينة في العالم! نظرة إلى هذه المدينة من «شبيغل».
تجيد لندن امتصاص الصدمات. لكن تتعلّق المسألة الأساسية الآن بمعرفة مدى قدرتها على متابعة مسارها. في هذه المدينة التي تُعتبر قلب العولمة الغربية، سيُنظَّم قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ويُطبَّق خلال الأشهر والسنوات المقبلة وسيكون عبارة عن مخطط متهور ومعزول. تبذل المدينة قصارى جهدها لمقاومة ضيق التفكير الإنكليزي بكل شجاعة، لكن سينشأ في النهاية بلد أقل انفتاحاً وأقل ارتباطاً بالعالم من حوله، ما يتعارض مباشرةً مع أبرز خصائص لندن.

تصدر في هذه المدينة نحو 12 صحيفة باللغة الإنكليزية يومياً وتتجمّع فيها الطرقات التجارية والرساميل المتدفقة، كذلك تشكّل ملتقى للمنفيين ورجال الأعمال النافذين وشيوخ النفط واللاجئين وكبار التجار والباحثين عن الراحة. تبث لندن الحياة في العالم بل تختصر لندن العالم بأسره. لذا تبدو الأخبار المتداولة والمكتوبة في هذا المكان محيّرة بالنسبة إلى كل من يحاول فهم حقيقة هذه المدينة.

مختبر عصر الهجرة

تُعتبر لندن مركزاً للعولمة وتبقى أكبر وأكثر جشعاً وقوة من أي مدينة أوروبية غربية. لم تستفد أي مدينة أخرى في العالم الغربي من موجة الهجرة والأسواق الحرة وتدفق الرساميل المتواصل والانفتاح والنزعة الدولية والأفكار الآتية من الخارج بقدر لندن. يعيش ثمانية ملايين ونصف مليون شخص من أنحاء العالم في هذه المدينة في جو هادئ نسبياً ويستفيدون منها عموماً. لذا يمكن اعتبارها مختبراً لعصر الهجرة إذ تحوم المظاهر الخارجية دوماً فوق إنكلترا.

لهذا السبب تحديداً، سيكون الانفصال عن الاتحاد الأوروبي أمراً مريعاً. ستبدأ الحكومة بتطبيق خطة الخروج استناداً إلى المادة 50. في هذا المجال، أثبتت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في المناسبات كافة أنها لا تهتم بخنق العاصمة. صوّت معظم الناخبين في لندن (60%) ضد قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لا يستطيع هؤلاء الناس أن يتقبلوا قطع الروابط مع القارة الأوروبية على أمل أن تثبت الاتفاقيات التجارية مع كوريا الجنوبية منافعها خلال عشر سنوات. بعد صدور النتيجة النهائية، انتشرت مخاوف في لندن من أن تصبح المدينة أصغر حجماً ويتراجع طابعها العالمي وتضعف أهميتها، بمعنى أن تصبح فقيرة كبرلين أو جامدة كباريس أو باهتة كروما. كذلك، زادت المخاوف من فقدان مكانتها كمدينة عالمية وتحوّلها إلى مدينة إنكليزية عادية.

تشمل هذه المدينة مدافن للملوك وأصبحت معقلاً للثوار والرأسماليين ويتّضح حسّها الفكاهي في مدفن كارل ماركس في «إسلنغتون» حيث يضطر الزوار إلى دفع أربعة جنيهات استرلينية كرسم للدخول. لا تعرف المدينة معنى الاعتدال وهذا ما يجعلها جاذبة لهذه الدرجة، ولا تتحمّل الكسل وهذا ما يجعلها مثيرة للاهتمام. لا يمكن الذهاب إلى هذه المدينة بحثاً عن الهدوء. كتب سامويل جونسون في عام 1777: «إذا تعب الإنسان من لندن، يعني ذلك أنه تعب من الحياة».

جو عام من القلق

في هذه الأيام، أصبح موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جزءاً من المحادثات. ضعفت العملة المحلية منذ إجراء الاستفتاء وزادت كلفة القهوة والهواتف الخلوية والإجازة في «إيبيزا». بدأت الممرضات الأوروبيات يستقلن من عملهن وتخطط شركات بأكملها للمغادرة.

تعبّر أبسط الأحاديث الاجتماعية في لندن عن القلق السائد، بغض النظر عن هوية المتحدثين: مهندسون، مصرفيون، كتّاب، مواطنون عاديون... يرتفع عدد المتشائمين الذين يظنون أن العاصمة البريطانية تتجه إلى الانهيار. لكن يثق البعض بالمدينة حتى الآن على اعتبار أنّ لندن لطالما كانت مرنة ولا يمكن أن تتحمل الجمود لأي سبب. سيكون الجمود مرادفاً للملل ويعني الملل انهيار المدينة.

كتب المؤرخ بيتر أكرويد في سيرته العظيمة أن لندن تشبه كائناً حياً نصفه من حجر ونصفه الآخر من لحم ودم: «من الغريب أن تشهد هذه المتاهة حالة مستمرة من التغيير والتوسّع». عند الحاجة ستتكيف المدينة مع الخطة الفوضوية الصعبة التي تتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

تنتشر مظاهر الفوضى في المدينة لكن من المفيد أن نراها من منظور جديد كأي وافد وصل إليها حديثاً. كانت أليساندرا موين تبلغ 22 عاماً حين وصلت إلى لندن من شمال إيطاليا. أرادت أن تتعلم اللغة الإنكليزية وتعيش المغامرات وتغادر بلدتها المحدودة وتصبح جزءاً من العالم. في البداية كانت تنوي أن تبقى هناك لبضعة أشهر ولم تضع خطة واضحة.

سافرت إلى لندن قبل عيد الميلاد مباشرةً: «بعد أسبوعين، حصلتُ على وظيفة تقضي بِطَيّ السترات والقمصان في «أكسفورد سيركس بينيتون». لم تكن الوظيفة مثالية لكني أعتبرها بداية جيدة. سرعان ما وقعتُ في غرام هذه المدينة».

«حالة ذهنية»

حصل ذلك قبل 14 سنة ولم تسمح لها لندن بمغادرتها منذ ذلك الحين. اليوم لم تعد أليساندرا تطوي القمصان بل تطبخ وجبات لذيذة من بلدها الأم وتبيعها للذواقة. موين واحدة من عشرات آلاف الناس الذين يأتون إلى هذه المدينة كل سنة ولا يغادرونها مطلقاً نظراً إلى الفرص المتاحة والحرية السائدة وطبيعة الناس الذين يبحثون عن المال أو السعادة أو المغامرة، وبالتالي يبحثون عن الحياة ومعنى الوجود!

يريد كل من ينتقل إلى لندن أن يثبت لنفسه أنه قادر على الصمود هناك. يشعر أي وافد جديد بأن هذه المتاهة من الشوارع والآثار العريقة والقصور والمشاريع السكنية ليست مجرّد قرميد واسمنت. يقول رئيس البلدية صادق خان إن لندن «حالة ذهنية» ويبدو أنه يعني ما يقوله. كان الاستفتاء أشبه بشوكة في خاصرة المدينة ويدرك خان أنه مضطر إلى إيجاد طريقة فاعلة لإخماد غضب السكان. لكن كيف سيحقق ذلك؟

كانت مسيرة خان المهنية لتكون مستحيلة في أي مكان آخر وتعكس حياته قصة هذه المدينة باعتبارها نقطة جاذبة لكل من يبحث عن الفرص. كان مساره ليثير الاستغراب في أي مكان آخر. لكن لم يتعجّب أحد في لندن من أن يصبح ابن سائق حافلة باكستاني محامياً ثم رئيس بلدية وأول زعيم مسلم في مدينة أوروبية ذات طابع عالمي.

يقول خان: «خلال أكثر من ألف سنة، كانت هذه المدينة منفتحة على التجارة والناس والأفكار. يجب ألا نسمح بتغيّر هذا الوضع».

صوّت خان ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كمعظم الناخبين في مدينته، ولكنه يواجه اليوم معضلة صعبة كجميع السياسيين الذين صوّتوا مثله. أصبح في معسكر الأشخاص الذين خسروا في الاستفتاء لكن يجب أن يبذل قصارى جهده كي يحمي المواطنين والشركات والبنوك من عواقب مغادرة الاتحاد الأوروبي. يريد أن يقيم رابطاً وثيقاً بين لندن وأوروبا عبر استعمال تأشيرات عمل خاصة. ربما لا يتمكن من إيقاف قرار خروج بريطانيا من الاتحاد لكنه يستطيع إبطاء مساره. لا تنحصر المسألة بمدينة لندن. يوضح خان: «حين تزدهر لندن، يزدهر البلد كله. وحين تتعثر لندن، سيعاني البلد كله».

لندن ستصمد

هل ستنتقل لندن الآن إلى باريس أو دبلن أو حتى فرانكفورت (من باب المزاح)؟ يريد بعض البنوك أن يغادر المدينة، بدرجة معينة على الأقل. تتراوح التقديرات المرتبطة بعدد الوظائف التي ربما تخسرها لندن بين عشرات الآلاف ومئة ألف. ولا أحد يعرف عمق التداعيات المرتقبة.

تعمل أليسون روز في القطاع المالي منذ التسعينيات. إنها امرأة مرحة وصريحة وحيوية وتشكّل جزءاً من اللجنة التنفيذية في البنك الملكي الاسكتلندي وتُعتبر إحدى أبرز النساء النافذات في المدينة. تقول إنها لاحظت أن العملاء أصبحوا قلقين وما عادوا يشعرون بالأمان. ربما لا تعرف نتائج المفاوضات بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومدى رغبة البنوك في لندن بمتابعة اختراق الأسواق الأوروبية، لكنها ليست متشائمة بل تتمسك بالأمل.

خلال عملها في القطاع المصرفي واجهت أنواع المشاكل كافة، من بينها الانهيار المالي قبل تسع سنوات، ما أدى إلى نشوء أعمق أزمة ركود منذ عقود. لكن تقدّم كل أزمة مجموعة من الفرص بحسب رأيها: «القطاع المالي ذكي جداً ويجيد تجاوز التحديات الناشئة». تظن روز أن المدينة ستصمد ولا توافق على مقارنة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأزمة عام 2008.

لم يكن المصرفيون، في معظمهم، يؤيدون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنهم سيتكيفون مع الوضع بحسب رأيها: «أظن أن المدينة ستتأقلم مع ذلك الحدث بغض النظر عن تداعياته في نهاية المطاف». بعبارة أخرى، لن نذهب إلى أي مكان! صمد القطاع المصرفي في وجه النيران والأزمات الاقتصادية العالمية والهزات المالية الكبرى. ربما تخسر لندن جزءاً من أعمالها لكن لا أحد يظن أن المصرفيين المطرودين سيجولون الشوارع وهم يحملون صناديقهم الورقية يوم تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. تبقى المجازفة جزءاً من اللعبة ولا شيء أفضل من استغلال هذا الوضع لجني المال.

على سبيل المثال زادت ثروة كريسبين أودي، مدير صندوق تحوّط، بمعدل ربع مليار يورو لأنه راهن ضد عملة الجنيه الاسترليني. ومن بين معارضي الاتحاد الأوروبي في لندن، يبرز أيضاً رجال فاحشو الثراء من أمثال مايكل هينتز الذي يدير صندوق تحوط ويرأس شركة إنتاج السكر Tate&Lyle ويأمل بأن يجني أرباحاً إضافية خارج الاتحاد الأوروبي.

باردة ومتغطرسة

رغم سوقية سكان لندن الأثرياء، لم تكسب الانتقادات الموجّهة ضد العولمة أي تأييد في هذه المدينة. لم تجذب «حركة الاحتلال» عدداً كبيراً من المؤيدين، ورغم المستثمرين والمالكين الجشعين بقيت الاحتجاجات ضد تحديث المعايير السكنية وتهجير الطبقة الوسطى من مناطق معينة في المدينة نادرة. ما من حلّ وسط بالنسبة إلى المقيمين في لندن: إما أن يتقدموا بعد معاناة أو يفشلوا. لذا تبقى الاحتجاجات غير نافعة.

هل سيسوء الوضع إذا اختفت الوظائف بدرجة تفوق التوقعات؟ لن يكون هذا الوضع إيجابياً بالنسبة إلى المصرفيين أو خزائن البلد طبعاً بما أن لندن تنتج المليارات على شكل عائدات ضريبية. لكن ألم يحن الوقت كي تزيد بريطانيا إنتاجها بدل أن تحصر نفسها بالخدمات المالية والعقارات المكلفة؟

اضطرت المدينة إلى تجديد نفسها بشكل متكرر كي ترفض التغيير واستفاد عدد كبير من الناس من ظاهرة «الانفجار العظيم» في القطاع المالي، من بينهم الفنانون. كان داميان هيرست وترايسي إمين وسارة لوكاس وجميع الفنانين البريطانيين الشباب من أبناء تاتشر وتكيّفوا ببراعة مع اقتراب عصر المال والغرور الفائق. هكذا جعلوا لندن مدينة باردة وجذابة ومتغطرسة. هزّ هؤلاء الثوار المدينة لكنهم أجادوا الانخراط في عالم الأعمال.

في هذه الأيام، يميل الفنانون الشباب إلى الاستقرار على أطرافها. لا تحدّد أية إحصاءات عدد الرسامين والنحاتين الذين يقيمون هناك حتى الآن لكن تتعدد المؤشرات التي تثبت أن المدينة بدأت تخسر أبناءها المبدعين. لا يستطيع الفنانون تحمّل كلفة الشقق في المدينة إلا بعد أن يصبحوا معروفين.

عند إقامة مقارنة بين صورٍ عمرها 30 سنة والصور المعاصرة، يبرز مشهدان مختلفان بالكامل. في عام 1987، بدت لندن قاسية ومغرورة. أما اليوم، فتبدو أكثر لمعاناً وتعجّ بالواجهات الزجاجية والمباني الشاهقة. منذ بداية القرن الواحد والعشرين، تضاعفت أعداد ناطحات السحاب بشكلٍ خارج عن السيطرة. يقع برج «شارد»، أطول مبنى في أوروبا الغربية، بالقرب من جسر لندن وكأنه شظية مشتقة من «نجمة الموت». شُيّدت عشرات المباني الشاهقة الإضافية أو يتم التخطيط لها ويأتي معظم التمويل من الخارج.

عزلة ثقافية

بدأ وجه لندن يتغير مجدداً: ينتقل أبناء الطبقة الوسطى من مكانهم، بمن فيهم الممرضات وضباط الشرطة والمعلّمون، نظراً إلى ارتفاع كلفة الحياة في العاصمة. يقول المهندس ديفيد شيبرفيلد: «لا يستطيع أي موظف عادي أن يعيش في وسط المدينة». نتيجةً لذلك، لم يبقَ فيها إلا أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء.

تعجّ مواقع العقارات على الإنترنت بمرائب تكلّف نصف مليون يورو وما فوق. في محطة كهرباء «باترسي» التي تطلّ على نهر «ثامس» وتحولت إلى مركز للشقق الفخمة، تكلف الشقة التي يبلغ حجمها 50 متراً مربعاً نحو 700 ألف يورو. لا عجب في أن يبدي شيبرفيلد سروره بهذا الوضع الجنوني كونه يستفيد منه. لكنه يقول إن المدينة ستتضرر في نهاية المطاف من رحيل الأشخاص العاديين: «تتأثر نوعية الحياة سلباً حين يتحول وسط المدينة إلى مركز تسوق عالمي».

يقول شيبرفيلد إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون كارثياً على بريطانيا من الناحية النفسية ويظن أن المدينة تتجه إلى شكلٍ من العزلة الثقافية. بحسب رأيه، سيجد الأشخاص الذين يبحثون عن عمل صعوبة متزايدة في المجيء إلى بريطانيا مستقبلاً، وإذا لم يتمكن الشباب الموهوبون من الاستقرار في منطقة «ثامس»، سيطورون أفكارهم في أماكن أخرى، ما يطرح خطورة على المدينة المتعطشة للمواهب الجديدة. يأتي ثلثا الأشخاص الذين يعملون في مكتب شيبرفيلد في محطة «واتيرلو» من أماكن أخرى في أوروبا. يوضح شيبرفيلد: «بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيصبح توظيف هؤلاء الأشخاص أكثر تعقيداً».

لا يخشى شيبرفيلد حصول انهيار مفاجئ بقدر ما يخاف من خسارة المراكز الاجتماعية. حتى الآن، برعت بريطانيا في التنقل بين البراغماتية والإبداع. يتمتع البلد حتى اليوم بنفوذ كبير في مجالات الموضة والموسيقى والتصميم. قبل الاستفتاء، كان شيبرفيلد يدعم المعسكر الطاغي. لكنه يعترف بقلقه نظراً إلى استحالة توقّع ما ستفعله المناطق التي تشعر بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيزيدها قوة في المجتمع البريطاني: إنهم الأشخاص الصاخبون والفاشيون وأعضاء المافيا.

أموال إضافية

تتعلّق المشكلة الحقيقية بغطرسة هذه المدينة. يدرك خان أن الانفتاح أمر مفيد، إذ تجذب لندن الناس والأموال والوظائف والفنون والأفكار، ويشتق 23% من الإنتاج الاقتصادي المحلي من العاصمة. كذلك يحبّ سكانها أن يُذكّروا إخوتهم الريفيين بتفوق مدينتهم في الطعام والمسارح والمتاحف والحياة الليلية. لذا كان الاستفتاء الأخير بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وسيلة كي ينتقم الريفيون الذين تضرروا من العولمة من أكبر المستفيدين منها.

يقول جون لانشستر، باحث وكاتب من سكان لندن: «ينظر الريفيون إلى العاصمة ولا يرون نفسهم فيها». طوال سنوات، كانت كتب لانشستر تحلل تفشّي الفساد في العاصمة وتُدقّق بفراغها الروحي الذي حوّل الجشع إلى شكل من الفنون، بما يتجاوز حدود القطاع المصرفي. بدأت المدينة تعتبر المال قيمة بحد ذاتها. أهلاً بكم في جحيم الرأسمالية!

كان لانشستر يجلس في نادي «سوهو هاوس» في وسط لندن: إنه موقع مثالي لمناقشة مسار تطور المدينة. لا يمكن اعتباره مجرّد نادٍ خاص للنخب المؤلفة من فئة الشباب ورجال الأعمال المزيفين، بل إنه خليط من العوامل الخارجية. لا يمكن أن يكتفي الفنانون الذين يريدون رسم لوحات عن المستفيدين من ظاهرة العولمة بوضع ألواحهم في هذا المكان. على صعيد آخر، من المعروف أنّ هذا الموقع يقدّم محاراً صخرياً لذيذاً.

يقول لانشستر إن الانتقاد المتعلّق بتحوّل لندن إلى مدينة كبيرة ونافذة أكثر من اللزوم أصبح أمراً قديماً لكنه دقيق، إذ أدى إلغاء الضوابط التنظيمية في القطاع المالي خلال الثمانينيات، أو ما يُعرف بـ«الانفجار العظيم»، إلى توسيع الشرخ بين لندن وبين بقية المدن.

يضيف لانشستر: «كانت المدينة مهووسة بتحويل الأموال إلى مصدرٍ لأموال إضافية». بدا وكأنّ لندن اكتشفت الخلطة السحرية التي تسمح لها بالاغتناء من دون أن تلطّخ يديها بأعمال مشبوهة. من يحتاج إلى الفحم والفولاذ إذا كان يستطيع جني المال من المال؟ يقول لانشستر ساخراً: «في ما يخص التنظيمات المصرفية، تخلّينا عن قواعدها خلال الثمانينيات. وبعد خمس دقائق، أصبحت لندن مركز الرأسمالية العالمية».

هجوم على الروح الليبرالية

كالمدينة كلها، يؤيد المهندس شيبرفيلد بريطانيا المبدعة والليبرالية. في المستقبل، لن يجد صعوبة في جذب العملاء لأنه أشهر من أن يواجه مشكلة مماثلة. لكنه ينزعج، ككثيرين في العاصمة، من البلد الجديد الذي ينشأ بوتيرة بطيئة وتمثّله تيريزا ماي. صُدِم شيبرفيلد حين سخرت الأخيرة من الأشخاص الذين يعتبرون نفسهم «مواطنين عالميين» واعتبرتهم «مواطني اللامكان».

لم يكن ذلك الكلام مجرّد هجوم على الروح الليبرالية للمدينة وطموحاتها العالمية وتفاؤلها وعدلها، بل كان هجوماً على حلم لندن الذي يسمح لجميع المقيمين في المدينة بأن يحققوا أهدافهم إذا كانوا مستعدين للعمل على بلوغها وإذا كانوا يتمتعون بدرجة من الموهبة. تتألف المدينة كلها من «مواطني اللامكان».

يدرك المقيمون في منطقة «ثامس» أن لندن أصبحت هشة لسببين: أولاً، يتباطأ تدفق الأموال في المدينة بدرجة شديدة. ثانياً، استقرت أعداد ضخمة من «مواطني العالم» في هذا المكان خلال السنوات الأخيرة وفتحوا مكاتبهم المرنة التي يسهل نقلها إلى سنغافورة أو دبلن خلال فترة قصيرة. ويتعلّق الخطر الحقيقي باحتمال أن تقع لندن في النهاية ضحية خلطتها السحرية الخاصة.

لكن هل ستكون هذه التطورات كلها سلبية؟ أصبحت الفجوة بين الأغنياء وبين الفقراء شاسعة ولم تعد لندن قادرة على تحمّل هذا المستوى من التفاوت. يجب أن تتفوّق العاصمة على المناطق المحيطة بها ويجب أن تكون سابقة لأوانها. لكن ربما أصبحت هذه العاصمة أبعد ما يكون عن البلد الذي تقع فيه، فقد ازدادت فيها التجاوزات والثروات ومظاهر الغطرسة بدرجة فائقة. لذا يمكن الاستفادة من الوضع إذا أصبح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نقطة ضعف بالنسبة إليها.

ربما يكون الوضع الطبيعي مملاً لكن ستستفيد لندن حتماً من استعادة جزء من المظاهر الطبيعية.

*كريستوف شورمان

تنتشر مخاوف من أن تصبح لندن أصغر حجماً ويتراجع طابعها العالمي وتضعف أهميتها

تدفق الأموال في المدينة يتباطأ بدرجة شديدة

تشكّل ملتقى للمنفيين ورجال الأعمال وشيوخ النفط واللاجئين والباحثين عن الراحة
back to top