أي قدر من أوروبا تستطيع أوروبا أن تتحمل؟

نشر في 27-03-2017
آخر تحديث 27-03-2017 | 00:06
إذا كان للديمقراطيات الأوروبية أن تستعيد صحتها فمن غير الممكن أن يظل تكاملها الاقتصادي والسياسي مفتقراً للتزامن والتوافق، فإما أن يلحق التكامل السياسي بالتكامل الاقتصادي، أو يخضع التكامل الاقتصادي لعملية تقليص.
 بروجيكت سنديكيت يحتفل الاتحاد الأوروبي هذا الشهر بالذكرى الستين لإبرام المعاهدة المؤسِّسة له، معاهدة روما، التي أنشأت الجماعة الاقتصادية الأوروبية (السوق الأوروبية المشتركة)، ومن المؤكد أن الأمر يستحق الاحتفال، فبعد قرون من الحرب والاضطرابات، والقتل الجماعي، أصبحت أوروبا سلمية وديمقراطية، وقد اجتذب الاتحاد الأوروبي 11 دولة من الكتلة السوفياتية السابقة إلى صفوفه، ونجح في توجيه انتقالها في مرحلة ما بعد الشيوعية، وفي عصر يتسم بالتفاوت، تَعرِض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أدنى مستويات التفاوت في الدخل مقارنة بأي مكان في العالَم.

بيد أن هذه إنجازات من الماضي، واليوم أصبح الاتحاد الأوروبي غارقا في أزمات وجودية عميقة، وأصبح مستقبله محاطا بالشكوك إلى حد كبير، والأعراض في كل مكان: الخروج البريطاني، ومستويات ساحقة من البطالة بين الشباب في اليونان وإسبانيا، والديون والركود في إيطاليا، وصعود الحركات الشعبوية، وردة الفعل السلبية ضد المهاجرين واليورو، وكل هذا يشير إلى الحاجة إلى إصلاح جذري للمؤسسات الأوروبية.

مستقبل أوروبا

ومن هنا تأتي الأهمية الشديدة التي يتسم بها التقرير الرسمي الجديد الصادر عن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر حول مستقبل أوروبا. يحدد يونكر خمسة مسارات محتملة: الاستمرار في تنفيذ الأجندة الحالية، والتركيز فقط على السوق المشتركة، والسماح لبعض البلدان بالتحرك بسرعة أكبر من غيرها نحو التكامل، وتقليص الأجندة، والدفع بطموح في اتجاه التكامل الموحد والأكثر اكتمالا.

من الصعب ألا يشعر المرء بالتعاطف مع يونكر، فمع انشغال ساسة أوروبا بمعاركهم المحلية وتحول مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل إلى هدف للإحباط الشعبي، فقد لا يتمكن يونكر من إنجاز شيء يُذكَر غير تعريض مستقبله المهني للخطر. وعلاوة على ذلك جاء تقريره مخيبا للآمال، فقد تهرب من التحديات الأساسية التي يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتصدى لها ويتغلب عليها.

وإذا كان للديمقراطيات الأوروبية أن تستعيد صحتها، فمن غير الممكن أن يظل تكاملها الاقتصادي والسياسي على افتقاره للتزامن والتوافق، فإما أن يلحق التكامل السياسي بالتكامل الاقتصادي، أو يخضع التكامل الاقتصادي لعملية تقليص. وما دام المسؤولون يتهربون من اتخاذ هذا القرار، فسيظل الاتحاد الأوروبي على اختلاله الوظيفي.

وفي مواجهة هذا الاختيار الصارخ من المرجح أن ينتهي المطاف بالدول الأعضاء إلى مواقع مختلفة على طول سلسلة متصلة من التكامل الاقتصادي السياسي، وهذا يعني ضمنا أن أوروبا لا بد أن تعمل على تطوير المرونة والترتيبات المؤسسية اللازمة للتوفيق بينها.

منذ البداية كانت أوروبا مبنية على حجة "وظيفية" تتمثل بلحاق التكامل السياسي بالتكامل الاقتصادي. يفتتح يونكر تقريره باقتباس مناسب من كلمة ألقاها في عام 1950 مؤسِّس السوق الأوروبية المشتركة (رئيس الوزراء الفرنسي) روبرت شومان: "لن تُبنى أوروبا بالكامل دفعة واحدة، أو وفقا لخطة واحدة، بل ستبنى من خلال إنجازات ملموسة تعمل أولا على خلق التضامن بحكم الأمر الواقع"، ففي بناء آليات التكامل الاقتصادي أولا، تُصبِح بهذا الأرض ممهدة لبناء المؤسسات السياسية المشتركة.

قفز إلى المجهول

في مستهل الأمر سار هذا النهج على ما يرام، فقد عمل على تمكين التكامل الاقتصادي من البقاء على مسافة خطوة واحدة سابقا للتكامل السياسي، ولكن ليس لمسافة بعيدة، وبعد ثمانينيات القرن العشرين قَفَز الاتحاد الأوروبي إلى المجهول، فتبنى أجندة السوق الموحدة الطموح التي سعت إلى توحيد اقتصادات أوروبا، وعملت على تقليص السياسات الوطنية التي عرقلت حرية حركة السلع والخدمات والبشر ورؤوس الأموال. وكان اليورو الذي أصبح عملة موحدة بين أفراد مجموعة فرعية من الدول الأعضاء، الامتداد المنطقي لهذه الأجندة، وكان ذلك إفراطا في العولمة على نطاق أوروبي.

كانت الأجندة الجديدة مدفوعة بمجموعة كبيرة من العوامل، وتصور العديد من الاقتصاديين والتكنوقراط أن حكومات أوروبا أصبحت أكثر ميلا إلى التدخل، وأن التكامل الاقتصادي العميق والعملة الموحدة من شأنهما أن يعملا على ضبط هذه الحالة، ومن هذا المنظور فإن عدم التوازن بين ساقي عملية التكامل الاقتصادية والسياسية كان ميزة لا عِلة.

ولكن العديد من الساسة أدركوا أن هذا الاختلال من المحتمل أن يثير مشاكل معقدة، ولكنهم افترضوا أن النزعة الوظيفية ستسارع إلى الإنقاذ في نهاية المطاف، وستتطور المؤسسات السياسية شبه الفدرالية اللازمة لدعم السوق المشتركة إذا أعطيت الوقت الكافي.

وقد أدت القوى الأوروبية الرائدة دورها، فتصور الفرنسيون أن تحويل السلطة الاقتصادية إلى البيروقراطيين في بروكسل من شأنه أن يعمل على تعزيز قوة فرنسا الوطنية وهيبتها العالمية، وجاراهم في ذلك الألمان، الذين كانوا حريصين على الحصول على موافقة فرنسا على إعادة توحيد شطري ألمانيا.

وكان البديل متاحا، فكان بوسع أوروبا أن تسمح بتطور نموذج اجتماعي مشترك جنبا إلى جنب مع التكامل الاقتصادي، وكان هذا سيتطلب تكامل الأسواق، وسيتطلب أيضا تكامل السياسات الاجتماعية، ومؤسسات سوق العمل، والترتيبات المالية، وكان تنوع النماذج الاجتماعية في مختلف أنحاء أوروبا، وصعوبة التوصل إلى اتفاق على قواعد مشتركة، سيعمل كمكابح طبيعية لوتيرة ونطاق التكامل.

وبعيدا عن كونه نقيصة فإن هذا كان سيتيح تصحيحا مفيدا فيما يتعلق بالسرعة المرغوبة ونطاق التكامل المطلوب، وربما كان هذا سيؤدي إلى اتحاد أوروبي أصغر حجما وأعمق تكاملا في مختلف المجالات، أو اتحاد أوروبي بعدد الأعضاء اليوم نفسه، ولكن بقدر أقل كثيرا من الطموح عندما يتعلق الأمر بالمجال الاقتصادي.

واليوم ربما فات أوان محاولة دفع تكامل الاتحاد الأوروبي ماليا وسياسيا، ذلك أن أقل من واحد من كل خمسة أوروبيين يفضلون نقل السلطة بعيدا عن الدول القومية الأعضاء.

المزيد من أوروبا

ربما يزعم المتفائلون أن هذا لا يرجع إلى النفور من بروكسل أو ستراسبورغ في حد ذاته بقدر ما يرجع إلى ربط عامة الناس بين "المزيد من أوروبا" والتركيز البيروقراطي على السوق المشتركة وغياب أي نموذج بديل جذاب، وربما تتمكن القيادات الناشئة والتشكيلات السياسية الجديدة من رسم مثل هذا النموذج وتوليد الحماس حول مشروع أوروبي مُقَوَّم.

على الجانب الآخر سيأمل المتشائمون أن يكون خبراء الاقتصاد والمحامون عاكفين في أروقة السلطة في برلين وباريس، على التحضير سرا لخطة بديلة لتنفيذها في يوم عندما يُصبِح من غير الممكن تأجيل تفكيك الاتحاد الاقتصادي.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "الاقتصاد يحكم: حقائق وأباطيل العلِم الكئيب".

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

الاتحاد الأوروبي أصبح اليوم غارقا في أزمات وجودية عميقة وأصبح مستقبله محاطا بالشكوك إلى حد كبير

عدم التوازن بين ساقي عملية التكامل الاقتصادية والسياسية كان ميزة لا عِلة
back to top