حبر وورق

نشر في 25-03-2017
آخر تحديث 25-03-2017 | 00:02
No Image Caption
دم العصافير

في المرة الثانية التي كادت أن تغرق فيها، كانت دعاء طافية على غير هدى وسط بحر عدائي ابتلع للتو الرجل الذي تحبه. شعرت ببرودة شديدة لدرجة أنه لم يكن بوسعها الإحساس بقدميها، وبعطش شديد لدرجة أن لسانها تورم في فمها. انتابها إحساس قوي بالحزن، ولولا الطفلتان الصغيرتان بين ذراعيها- اللتان بالكاد لا تزالان على قيد الحياة- لتركت البحر يبتلعها. ما من يابسة تلوح في الأفق، بل مجرد أشلاء من حطام السفينة، وعدد قليل من الناجين الآخرين الذين يدعون ليتم إنقاذهم، وعشرات الجثث الطافية والمنتفخة.

قبل ثلاثة عشر عاماً، كادت بحيرة صغيرة أن تبتلعها وليس المحيط الواسع. وفي تلك المرة، كانت عائلة دعاء موجودة لإنقاذها. كانت في السادسة من عمرها، والوحيدة في عائلتها التي رفضت تعلم السباحة. إذ خافت من الماء كثيراً؛ ومجرد رؤيته كانت تملأها ذعراً.

وخلال النزهات إلى البحيرة قرب منزلهم، كانت دعاء تجلس وحدها مراقبة أخواتها وأقرباءها وهم يتراشقون بالماء، ويغطسون ويتشقلبون في البحيرة، ليخففوا من شعورهم بالحرّ الشديد الذي يتصف به صيف سوريا. وكلما حاولوا إنزالها إلى الماء كانت ترفض بشدة، وتقاوم كثيراً. حتى في طفولتها، كانت عنيدة؛ ولطالما قالت أمها للجميع بمزيج من الفخر والغضب: «لا أحد يستطيع القول لدعاء ما يجب عليها فعله».

بعد ظهر أحد الأيام، اعتبر مراهق من أقرباء دعاء أن خوفها سخيف جداً، وأن الوقت قد حان لتتعلم السباحة. وفيما كانت دعاء جالسة ترسم الأشكال على التراب بأصابعها، وتراقب الآخرين الذين يتراشقون بالماء، زحف خلفها، وأمسكها من خصرها، ورفعها إلى الأعلى فيما راحت تركل وتصرخ. إلا أنه تجاهل صراخها، وحملها فوق كتفه وأنزلها إلى البحيرة. التصق وجهها بأعلى ظهره، فيما تدلّت ساقاها مباشرة تحت صدره. ركلت قفصه الصدري بقوة، وغرزت أظفارها في فروة رأسه. ضحك الأولاد فيما مدد قريب دعاء ذراعيه وأفلتها في المياه المعتمة. أصيبت دعاء بالذعر فيما وقعت على وجهها في البحيرة. غمرت المياه دعاء حتى صدرها فقط، لكن الذعر شلّها، وباتت عاجزة عن تحديد موقع ساقيها لإيجاد موطئ لقدميها. وبدل أن تطفو إلى الأعلى غرقت، ولهثت محاولة استنشاق الهواء، ولكنها ابتلعت الماء عوضاً عن ذلك.

غير أن ذراعين ظهرتا في الوقت المناسب وسحبتاها من البحيرة، ورفعتاها إلى الشاطئ لتصبح في حضن أمها المذعورة. تقيّأت دعاء كل السائل الذي ابتلعته، وبكت، وأقسمت ألا تقترب أبداً من الماء مجدداً.

في ذلك الحين، لم يكن لديها شيء آخر في عالمها لتخشاه. ليس حين تكون العائلة موجودة دوماً لحمايتها.

لا تذكر دعاء ابنة الأعوام الستة أي لحظة كانت فيها وحيدة. فقد عاشت مع أهلها وأخواتها الخمس في غرفة واحدة في منزل جدها المؤلف من طابقين، فيما عاش إخوة والدها الثلاثة مع عائلاتهم في الغرف الأخرى، وكانت كل لحظة من حياة دعاء مليئة بالأقرباء. نامت جنباً إلى جنب مع أخواتها، وتناولت وجبات مشتركة، واستمعت إلى محادثات مفعمة بالحيوية.

عاشت عائلة الزامل في درعا، أكبر مدينة في جنوب سوريا، على مسافة كيلومترات قليلة فقط من الحدود الأردنية، وعلى بعد ساعتين بالسيارة من جنوب دمشق. تقع درعا على سهل بركاني غني بالتربة الحمراء الخصبة. في العام 2001، حين كانت دعاء في السادسة من عمرها، اشتهرت درعا بسخاء محاصيل الفاكهة والخضار التي تنتجها الأرض: الرمان، والتين، والتفاح، والزيتون، والبندورة. وقيل يومها إن محصول درعا كفيل بإطعام كل سوريا.

بعد أعوام قليلة، تحديداً في العام 2007، ضربت موجة جفاف البلاد بأكملها، واستمرت ثلاثة أعوام، ما أجبر العديد من المزارعين على ترك حقولهم والانتقال مع عائلاتهم إلى مدن مثل درعا بحثاً عن العمل. ويعتقد بعض الخبراء أن هذا النزوح الهائل هو الذي أفضى إلى موجة الاستياء التي تأججت عام 2011، قبل أن تتحول إلى موجة احتجاجات عارمة، وبعدها إلى ثورة مسلحة ستدمر حياة دعاء.

في العام 2001، حين كانت دعاء فتاة صغيرة، كانت درعا مكاناً مسالماً؛ حيث عاش الناس حياتهم مع أمل جديد بمستقبل البلاد. إذ استلم بشار الأسد سدة الرئاسة خلفاً لوالده، فأمل أهل سوريا أن تنتظر بلادهم أوقات أفضل، واعتقدوا في البداية أن الرئيس الشاب سيتخلى عن سياسات والده. وكان بشار الأسد وزوجته الجميلة قد تلقيا علومهما في إنكلترا، واعتبر زواجهما بمثابة اندماج؛ فهو من الأقلية العلوية، فيما زوجته أسماء- مثل عائلة دعاء- من الأغلبية السنية. كانت سياساته علمانية، فانتشر الأمل- لاسيما بين النخبة الدمشقية المثقفة- بأن يتم خلال عهده التخلي عن قانون الطوارئ الذي ورثه والده وحافظ عليه طوال ثمانية وأربعين عاماً لسحق المعارضة، وأن يتم رفع القيود المفروضة على حرية التعبير. فبذريعة حماية الأمن القومي من المقاتلين الإسلاميين أو المنافسين الخارجيين، استخدمت الحكومة قانون الطوارئ لقمع الحقوق الفردية والحريات، والسماح لقوى الأمن بإجراء اعتقالات احترازية من دون أسباب قانونية.

أما المواطنون الأكثر فقراً، والأكثر محافظة، مثل أولئك الذين يعيشون في درعا، فقد أملوا أساساً في حصول تحسينات اقتصادية، ولكنهم قبلوا بهدوء بطريقة سير الأمور في بلادهم. وكان قبولهم الصامت ذاك نتيجة درس قاسٍ تعلموه عام 1982 في مدينة حماه؛ عندما أمر الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد بقتل آلاف المواطنين بمثابة عقاب جماعي، رداً على تحرك الإخوان المسلمين الذين تحدوا حكمه. لا يزال ذلك الانتقام الوحشي حياً في عقول السوريين. ولكن مع وصول جيل جديد إلى السلطة، أملوا في أن يلغي ابن حافظ الأسد بعض القيود التي أعاقت الحياة اليومية. لكن لخيبة أمل الشعب السوري، بالكاد انتبه الرئيس الجديد للإصلاحات، ولم يتغير الكثير. وبعد مجزرة حماه، تجرأ عدد قليل فقط على تحدي النظام القمعي.

أيام السبت، حين كانت دعاء صغيرة، كانت السوق القديمة في المدينة تمتلئ بالسكان المحليين والزوار عابري الحدود من الأردن الذين جاؤوا لشراء منتجات عالية الجودة بأسعار جيدة، ومقايضة الأدوات والفاكهة. إذ تقع درعا على الطريق التجارية الرئيسة المؤدية إلى الخليج العربي، وقد جذبت الأشخاص من كل أنحاء المنطقة. وبالفعل، اجتمع الناس في درعا أو حرصوا على زيارة المدينة لدى مرورهم بها. لكن في قلب المدينة، نشأت مجموعة مقربة من العائلات الكبيرة والصداقات التي امتدت طوال أجيال عدة.

يبقى الأولاد في درعا- كما في كل الأمكنة الأخرى في سوريا- مع عائلاتهم حتى سن الرشد. حتى إنهم يبقون في منزل العائلة بعد الزواج، ويحضرون زوجاتهم إلى هناك لتربية أولادهم. لذا، كانت البيوت السورية- مثل بيت دعاء- مليئة بأفراد العائلات، وعاشت فيها أجيال عدة تحت سقف واحد، وتشاركت منزلاً واحداً. وكلما فاض عدد أفراد عائلة كبيرة على الغرف الموجودة في الطابق الأول من المنزل، كان يتم تشييد طابق ثانٍ لتوسيع المنزل نحو الأعلى.

في منزل دعاء، كان جزء من الطابق الأرضي يخص عمها وليد وزوجته أحلام وأولادهما الأربعة. وبالقرب منه عاش العم عدنان مع عائلته المؤلفة من ستة أفراد، فيما امتلك محمد، جد دعاء، وجدتها فوزية غرفتهما الخاصة. وعلى السطح، أقام العم نبيل مع زوجته هنادي وثلاثة صبيان وبنتين في غرفة صغيرة. أما عائلة دعاء المؤلفة من ثمانية أفراد فقد عاشت في غرفة في الطابق الأرضي قريبة من المطبخ؛ المكان الأكثر ازدحاماً وضجة في المنزل. كل الغرف الأساسية كانت موزعة حول فناء مفتوح، نموذجي في المنازل العربية القديمة، يدخله الأولاد ويخرجون منه، ويجتمعون للعب عند انتهاء المدرسة وبين وجبات الطعام. وكشف السطح أيضاً عن مساحة تجتمع فيها العائلة. ففي الليالي الصيفية الحارة، كانوا يسترخون هناك حتى ساعات الصباح الأولى، حيث يدخن الرجال النراجيل، وتثرثر النساء مع بعضهن، ويشربون جميعاً الشاي السوري اللذيذ. وفي الليالي الحارة جداً، كانت النسمات الباردة على السطح تجذب أفراد العائلة وتدفعهم إلى بسط فرشهم هناك والنوم تحت النجوم.

تناولت العائلة كلها- أي العمات والأعمام وأولاد العم- وجبات مشتركة في الفناء الداخلي للمنزل، حيث كانوا يجلسون بشكل دائري على سجادة حول أطباق الطعام الساخنة. في أوقات الوجبات، كانت دعاء وأخواتها يأكلن الطعام بنهم شديد، ويلتهمن كل ما بوسعهن، ويغرفن الطعام بقطع الخبز العربي الرقيق الملفوف بين أصابعهن.

أحب والد دعاء تلك اللحظات التي كان يمضيها مع عائلته، لأنه الوقت الوحيد من النهار الذي يستطيع تمضيته مع بناته. ففور انتهاء الوجبة، وانتهائه من شرب الشاي المحلى، كان يركب دراجته الهوائية عائداً إلى صالون الحلاقة الخاص به للعمل حتى منتصف الليل.

الحب والصراعات والفرح والأحزان الناجمة عن العيش مع عائلة كبيرة، أثرت جميعها في كل مرحلة في حياة دعاء. وتحت سقف تلك العائلة المحبة، بدأت التوترات تزداد.

عندما ولدت دعاء، كان لأهلها ثلاث بنات، وقد واجها ضغطاً من العائلة لإنجاب صبي. ففي المجتمع السوري التقليدي، يعتبر الصبيان أكثر أهمية من البنات؛ لأن الناس يعتقدون أنهم سيدعمون العائلة، فيما البنات سيتزوجن ويخصصن انتباههن لأزواجهن وعائلاتهن. كان شكري- والد دعاء- رجلاً وسيماً ذا شعر داكن مجعد، وقد عمل في مهنة الحلاقة منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره. وقد عمل سابقاً في اليونان وهنغاريا. خطط شكري للعودة إلى أوروبا لإيجاد وظيفة وزوجة أجنبية، لكنه بعد أن التقى هناء- والدة دعاء- تبدلت خططه. كانت هناء قد أنهت الثانوية العامة عندما التقيا في زفاف أحد الجيران. كانت صغيرة القامة، وذات شعر داكن وطويل ومتموج، وعينين خضراوين لافتتين. انجذبت وشكري فوراً إلى بعضهما. فقد وجدته أكثر تواضعاً وثقة في النفس من بقية الرجال المحليين، وأحبت طريقته في ارتداء الشروال وعزفه على العود؛ الآلة الوترية التي تعتبر سلف الغيتار.

وهكذا، تزوج شكري وهناء عندما كانت هذه الأخيرة في السابعة عشرة من عمرها فقط. سنواتهما الأولى معاً كانت مسالمة ومليئة بالحب، لكن الأمور تبدلت ببطء. كانت المرة الأولى التي سمعت فيها هناء حماتها فوزية تشكو من عدم إنجاب ابنها وزوجته ولداً بعد إنجاب هناء ابنتها الثالثة. وصدمت هناء عندما سمعت أقرباء شكري يقولون له إنه يجدر به الزواج من امرأة أخرى لتنجب له صبياً. لكن شكري كان فخوراً ببناته، بالرغم من اضطراره إلى مواجهة الأحكام المسبقة والتوقعات المتأصلة. بيد أن أمه استمرت في انتقاد هناء، وأصرّت على أن شكري يستحق إنجاب صبيان. وفجأة، تحوّل منزل العائلة الذي كان سابقاً ملاذاً لشكري وهناء إلى مكان للنزاع؛ إذ انضمت بعض أخوات شكري إلى أمهن في الهمس والثرثرة عن عدم قدرة هناء على إنجاب الصبيان.

على مائدة داعش

يقذف بنا الظلام بقسوة خارج الأرحام، لا يترك لنا فرصة أن نقرّر، أو نختار، لنجد نفسنا مرغمين على تقبّل النور..

في النور، حين نتعلّم كيف نكون أحراراً، نضحك باستهزاء، ونحن نقول:

«كم كان الظلام متعجرفاً! يظنّنا سنعود إليه لنطمس فيه أرواحنا للأبد، ولم يتيقّن بعد أنّ من يلتحم بالنور، لا يمكن له أن يعود إلى الظلام إلاّ منسلخاً، مرغماً، كما غادره».

تتوسّط شعلةٌ من النار، المتّقدة ببضع قطراتٍ من زيت الزيتون، حلقة القيام بـ «رقص السما»، التي يؤدّيها سبعة رجال ، بثيابهم «الشالك»، تلك العباءات البيضاء، تعلوها سترة قمحيّة اللون طويلة بأكمام واسعة.

يتقدمهم «فقير حجّي»، رجل دين بشالك، أسود يمثّل «شيخ آدي»، بحركاتهم البطيئة المتناسقة المتناغمة مع إيقاع الطبول وعزف الناي، يطوفون حول الشعلة سبع مرّات.

يحاوطهـم عدد كبير من الزائرين، محتفلين بعيد أربعينيّة الصيف.

حافو الأقدام يقفون على أرضيّة معبد لالش الواقع بين ثلاثة أودية. بقبّته المخروطيّة يشقّ الفراغ ناكزاّ السماء..

بالقرب من عائلتي، أقف حافية، أراقب بعيون يلبسها الشوق المحرّم الجهة المقابلة لحلقة الرقص، لمحت وجه سيروان بين الوجوه.

مضت شهور طويلة لم أره فيها، منذ ترك القرية لم يعد إليها، ربّما ليتجنّب رؤيتي!

تعلو الترانيم، وتتكاثف رائحة البخور المحترق مع الشعلة، ترخي الأشجار الممتدّة على مساحة باحة المعبد بظلالها فوق الرؤوس، ورجال الدين يستمرّون بطوفانهم حول الشعلة، قاطعين عليّ فرصة أن تطأ عينيّ حقول الورد بعيني سيروان.

لماذا يعود اليوم؟ من أجل العيد، أم لأجل عينيّ؟ كما كان يقول لي دائماً:

«عيناك تُحضراني إليك حتى وإن كنتُ في آخر الدنيا».

يقف في الجهة المقابلة بعيداً عنّي، يفصلني عنه غيابٌ طويلٌ، وحلقةٌ من رقص سما!

كان يبحث عن شيء، عن أحد. حين وجدني، ثبّت اتجاه الشمس نحوي.

أومأ لي برأسه تحيّةً صغيرةً، هل أتوهّم ذلك؟

انتهى الرقص بإكمال الدورة السابعة حول الشعلة، بدأ الناس يقتربون من رجال الدين لمعايدتهم، وتقبيل أيديهم احتراماً، فيما ابتعدث عن الجموع متجهة إلى مدخل لالش، قبّلت العتبة وجانبي البوّابة، تخطّيتُ العتبة إلى الداخل، من دون أن أمسّها بأقدامي، ربطت طرف إحدى الأقمشة الملوّنة المتدلّية من ضريح شيخ آدي لأطلق أمنيتي!

أشعلت بعضاً من الفتائل، ليملأ نورها الأمكنة المظلمة بقلبي، ورحلت.

وسط هذا الليل المظلم، فكّرت كم انتظرنا شروق العيد طويلاً، لكنّه مرَّ مسرعاً.. يومٌ كباقي الأيّام أتى إلينا بالفرح ضيفاً لآخر مرّةٍ ربّما!

دفقت كثيراً من الماء أمام عتبة البيت، لأزيل بقايا الدماء المُتجفّفة، من أضاحي العيد الصباحيّة، ثم لملمتُ ألعابَ أخي «شفان» من الحديقة. وكنستُ الأرض بعد يوم مليء بالزينة، وأقدام المهنئين بالعيد.

أقدام خالتي كوري آخر من زارتنا، خرجت ضاحكة من غرفة الجلوس. تمسك يد أمّي وتهمس لها بسريّة:

- أتمنى أن تفرحي بيوفا في العيد القادم.

تركت المكنسة تستريح، وقلت لها:

- خالتي، لا أريد الزواج ولم اكمل دراستي بعد.

شدّت على يد أمّي ولوّحت بها فى الهواء قائلة:

-هذه أيدينا لم نمسك بها لا قلم ولا فرشاة، ممّا تشكو؟ هاه!

واقتربث منّي هامسة:

- أما زال ببالك؟

هززت لها برأسي دون أن أنظر بعينيها.

غمرتني وهي تضيف بأذني:

- إنسي أمر ذلك الشابّ.

ثم كمشت كتفيّ، وبصوتٍ يضجُّ بالنصيحة:

- يا ابنتي، إنّه من طبقة وأنت من طبقة، ديننا وأعرافنا حرّموا هذا الزواج.

وخرجت من الباب ناطقة بجملتها الأخيرة:

«أتمنى أن ينعاد عليكم بالصحة والخير».

لم تكن هذه الجملة تلفتُ انتباهي من قبل، كنت أعتبرها مجموعة كلماتٍ تقال بحكم العادة.

إلاّ أنّني لم أنسها أبداً. في كل الأيام التي تلت هذا اليوم، رافقتني كتعويذة!

انتهى يوم العيد من حياتنا جميعاً، وما إن مالت الشمس على كتف جبل سنجار، حتى اختفت فجأةً، كأن شيئاً ابتلعها!

رغم إدراكي أنّ سيروان لن يهاتفني هذه الليلة أيضاّ، ككلّ ليالي الشهور السابقة.

لكنّ لهفتي لم تتعب من التأرجح بين عينيّ وشاشة هاتفي، علّه يأتيني بصوته صارخًا بجنون متتالٍ: أحبّك يوفا، أحبّك يوفا ..

ثلاث وعشرين مرّة.

هبط الليل الداكن باكراً على كل قرى الجبل، تعانقت الرموش لآخر مرّة بسلام، وغفت عيون الجميع.

لم تزرنا الأحلام في تلك الليلة، بقيت تقف فوق قضبان الشبابيك.

رشقات رصاصٍ متطاير، كسَر سكون اللحظات الأولى للشروق، هبيتُ من فراشي كمن لسعه عقرب.

يحاول أبي من خلف النافذة استكشاف ما يحصل في الخارج.

أهو بركان وجد بهذه المنطقة فجأة، وانفجر الآن؟

التحمت بأمّي، أحاول أن أهدأ، مسّدت بيدها على شعري، فلاحظت أن يدها ترتجف أكثر منّي.

سيجارة أبي بفمه، تشتعلُ، وترمي برمادها على قميصه، لم أر أبي بهذا الحال، إلاّ عندما وقع أخي من على سطح البيت، وكنا ننتظر عودته للحياة، لكنّه لم يعد.

فتح أبي الباب، وخرج إلى الحديقة مستطلعاً، وكمن فتح باب جهنّم علينا من غير قصد!

ترافق مع الرشقات صيحات الله أكبر، الله أكبر.

دخل مسرعاً، أوصد الباب، إلاّ أن باب جهنّم بقي مفتوحاً.

- يجب أن نخلي البيت، الآن، إنّهم قادمون، ردّدها أبي تكراراً.

تصرخ أمّي من الخوف:

- أين نذهب يا رجل؟

- إلى الجبل.

على عجلة من أمره، رمى أبي سيجارته أرضاً قرب سريره، ألمح بداخل عينيه مارداً منكسراً، رغم مكابرته، ومحاولته السيطرة على الدخان المتطاير من جلده المحترق مع سيجارته!

اجتزت باب غرفته بعدّة خطوات متباطئة، إلى أن أصبحت أتنفّس دخانه:

- أبي ماذا يحصل؟ لماذا يهاجموننا؟

- أنا بقربكم ومعكم.

أطفأ قليلاً من ناره حين غمرني، تقوقعت بين ذراعيه كفراشة تختبئ بين طيّات شرنقتها، وما أحزنني بتلك اللحظة الهاربة، أنّ الشرنقة لا يمكنها البقاء إلى الأبد!

لبسنا ما خف وزنه، وأخذنا ما غلا ثمنه، وخرجنا من بيتنا.

أبي أوّل من خرج مسرعاً إلى الشارع، لملاقاة الجيران الذين تجمهروا بالقرب من بيوتهم.

أمّي تحمل أخي شفان، ذا السنوات الستّ، وتركض به نحو خالتي كوري، التي أراها مذعورةً، لأوّل مرة بحياتي.

أغلقت الباب، وبقي المفتاح معي.

back to top