الساحة : الكتابة: نص الذاكرة أم ذاكرة النص؟

نشر في 30-07-2010
آخر تحديث 30-07-2010 | 00:00
 سعود الصاعدي مثلما تساند عملية الإلقاء في توصيل النص الشعري الخطابي، وتكون لها دلالاتها وإيحاءاتها، فإن العملية الكتابية تأتي بديلة للإلقاء، وتحل إشارات الكتابة محلّ إشارات الشاعر، لكن بطريقة تناسب روح الكتابة، ولأجل ذلك قيل: «الخلاقون لهم قرَّاء، والشعراء العاديون لهم جمهور»، وهو ما يفسّر انحسار مدّ النص الكتابي أمام مدّ النص الشفهي في مسابقات الشعر التي ترتكز على الجماهيريّة.

الكتابة: ذاكرةٌ موازية

كانت الكتابة قديماً، باعتبارها ذاكرة موازية، عيباً ينقص به قدر الشاعر، الأمر الذي جعل شاعراً كذي الرمة لا يبوح بسرّ قدرته على الكتابة لأحد، وهو، من هذه الزاوية محقٌّ كلَّ الحقّ، ذلك أنّ الشعر -قديماً- يعتمد الرواية والمشافهة، وحين يكون الشاعر كاتباً فإنَّ ذلك يعني احتمال أن يكون اكتتب قصائده وأُمليت عليه بكرةً وأصيلا، وهو أحد مزاعم المشركين في طعنهم في مقام النبوة، وفي القرآن، رغم أنّ هذا الطعن الساذج باطلٌ من جهات عدّة، إحداها أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن قارئا ولا كاتبا، وأميّته في هذا الجانب صفة كمال، لا صفة نقص، وذلك ما كان يشير إليه ذو الرمة حين أخفى معرفته بالكتابة، أو لعلّه يريد ذلك، إضافةً إلى أنّ الكتابة، بوصفها وسيلة نقل وحفظ للأفكار، تعدّ ذاكرة دخيلة على الذاكرة الأصيلة، والشعراء تهمهم، في المقام الأوَّل، الأصالة في كلّ شيء، وينأون عن التقليد والتكرار والتناسخ، وحين يكون الشاعر أصيلاً، فهذا يعني أنَّه يتمتّع بالأصالة في كلّ ما له علاقة بشعره، والذاكرة ذات مساس بالشعر حين تكون المشافهة أبرز سماته، وفرقٌ بين شاعر يحتفظ بنصوصه الشعريَّة ويمليها من خلال ذاكرته، وشاعر آخر يقرأ الشعر من ورقة بيضاء تحلّ بديلة لذاكرته وتجيء بوصفها ذاكرة موازية.

من هنا، فالشعراء المحافظون، أو الذين يبحثون عن الجماهيريَّة، يحرصون -كلّ الحرص- على حفظ نصوصهم الشعرية، ويعيب أحدهم الآخر حين تكون الكتابة/القراءة، هي الوسيط بينه وبين جمهوره، لأنه يريد أن يحضر بكل ما يتمتع به من أصالة.

وفي الشعر العامي -تحديداً- تبرز هذه الظاهرة بوضوح، ذلك أنه شعرٌ لم يتحرَّر بعدُ من شفاهيّته، ولاتزال الكتابة بالنسبة له ذاكرة موازية، الأمر الذي يجعل الوجه الآخر للكتابة: القراءة، عيباً من عيوب الإلقاء، فلا يجوز للشاعر أن يقرأ قصائده؛ لأنَّ ذلك يُعدّ نقصاً في حضوره المنبري، هذا مع ما تسبّبه القراءة أثناء الإلقاء من فقدان لكثير من المهارات الإلقائية التي يحرص عليها الشعراء، ولا سيما شعراء المنابر الذين لم تحضر قصائدهم إلا لهذا الغرض الخطابي.

الكتابة: نصٌّ إبداعيٌّ معادل

من جانبٍ آخر نجد الكتابة في النص الشعري الحديث تنتقل من كونها وسيلة لحفظ الأفكار، لتصبح فعلا إبداعيَّا موازيا، ومن هنا يغلب على المبدعين الذين اعتادوا فضاء الورقة، فضاء الكتابة، الشعور بالحرج حين يُطلب منهم مواجهة الجمهور بنصٍّ شعريٍّ لا يتمتّع بمواصفات النصّ الخطابي الشفهي، ذلك أنَّ الشاعر لا يستطيع عزل النصّ عن كتابيّته، وحين يصرُّ على فعل ذلك، في ظلّ عدم استعداد الذائقة الشفهيَّة، فإنّه يظلم النصّ، ويكون ذلك سبباً في إنطفاء النصّ، أو على الأقلّ خفوت الوهج الكتابي الذي كان يسند الصور والرموز الشعرية، ولست أعني بالكتابة هنا، عمليّة النسخ المجرّدة، إنما أعني بها الكتابة التي تحمل معها إيحاءاتها من إشارات وعلامات ترقيم ومواصفات للخط، ومساحات بيضاء بين السطور، إضافة إلى هذا كلّه، ذلك الشعور الذي يمتدّ بين الورقة والقارئ، ويغيب لحظة الإلقاء الشفهي، لأنّ الإلقاء هو البديل له في النص الخطابي، ومثلما تساند عملية الإلقاء في توصيل النص الشعري الخطابي، وتكون لها دلالاتها وإيحاءاتها، فإن العملية الكتابية تأتي بديلة للإلقاء، وتحل إشارات الكتابة محلّ إشارات الشاعر، ولكن بطريقة تناسب روح الكتابة، ولأجل ذلك قيل: «الخلاقون لهم قرَّاء، والشعراء العاديون لهم جمهور»، وهو ما يفسّر انحسار مدّ النص الكتابي أمام مدّ النص الشفهي في مسابقات الشعر التي ترتكز على الجماهيريّة.

إذاً، الكتابة هناك نقص، وهنا كمال، وفعل الكتابة حسب شروط النصّ الشفهي هو فعلٌ للذاكرة، أمَّا حسب شروط النص الكتابي فإنّه يصبح فعلا إبداعيَّاً يستهلك جهداً ويحتاج إلى تركيز، وله طقوسه الخاصّة، وقد فطن الجاحظ قديماً، بعبقريّة فذّة، إلى أنّ اختيار القلم وبريه جيداً له أثرٌ في البيان، وكأنَّه يشير، من طرفٍ خفيٍّ، إلى نظرة مستقبليّة، أو يستشرف مستقبلا جديداً للكتابة غير اعتبارها وسيلة نقل فحسب، وذلك ما أثبتته تجارب الشعر الحديث ، وأخيراً تجارب المدوّنات الإلكترونيَّة: منتديات الإنترنت.

وجملة القول في ما سبق، هو أنَّ الكتابة نصٌّ للذاكرة حين يكون الشعر شفاهيا، وذاكرةٌ للنصّ حين يكون الشعر فعلا كتابيّاً له طقوسه وآليّاته.

back to top