حبر وورق

نشر في 11-03-2017
آخر تحديث 11-03-2017 | 00:05
No Image Caption
فزاعة حقل

أحجية ما قبل النوم

ألهبت حرارة الشمس رأس الطفل سليمان البالغ من العمر ست سنوات، المتربع فوق الأمتعة المربوطة على ظهر الجمل المنهك، والذي غاصت أخفافه في الرمال الساخنة راسمة آثار رحلة أوشكت على الانتهاء. الأب حمدان بثوبه الرمادي يتقدم المجموعة الصغيرة بصمت مهيب، يقود لجام البعير بيده اليمنى بينما يده اليسرى تثبت ابنه دخيل الله الذي استرخى على كتفيه. الأم سالمة تسير لاهثة خلف الجمل، تتقاسم حمل قِرب الماء مع ابنتها البالغة من العمر سبعة أعوام تتبعها القليل من الأغنام تمشي خلف القافلة لا تحيد عنها فلم تعد هناك نباتات تغريها، تلك العنزات التي تبقت من قطيع كبير قبل أن تنفق من شدة الجوع.

سالمة تردد كلمات بلا معنى لتنبيه الأغنام كي تنتظم في المسير، وحمدان يردد مواويل نبطية لتزجية الوقت قبل أن يتحدث إلى عائلته:

«هناك قرية عند البحر تسمى «حقلاً» لنا فيها حقل».

كانت العائلة تشق طريقها باتجاه بحر خليج العقبة قادمة من عمق الصحراء الحدودية بين السعودية والأردن، فيما مضى كانوا يأتون إلى قرية حقل في الصيف لأجل الحصول على الماء والتمر أما في الشتاء فيرحلون إلى الصحراء للرعي، ولكن هجرتهم هذه هي الختام لتلك الرحلات للاستقرار في قرية حقل.

تلك السنة قرر حمدان الهجرة إلى قرية حقل لأن البلاد أصيبت بقحط وجدب نتجت عنهما مجاعة شديدة. هاجر كثير من الناس إلى مصر وأماكن أخرى، فقد ندرت اللقمة حتى اضطر بعضهم إلى أكل الميتة، وبعضهم فتّت فضلات الجمال بحثاً عن حبات شعير ليطحنها ويصنع منها قرصاً صغيراً من الخبز. جفت المراعي بسبب قلة الأمطار، ولم تعد المواشي تقوى على الصمود أمام المجاعة، فأصيبت بأمراض مميتة.

توقف حمدان بجانب شجرة سمر، أنزل ابنه دخيل الله، فقفز سليمان عن ظهر الجمل ليركضا بالقرب من المكان فتبعتهما العنزات في مرح.

حمدان يتأمل أبناءه من بعيد وهم يحرصون على إحاطة الأغنام، يحرسونها بعناية تنمّ عن خبرة كبيرة على الرغم من أعمارهم الصغيرة.

أشعل حمدان النار، وفرَدَت سالمة جلد ماعز كانت تحتفظ به. لم يمضِ وقت طويل حتى عاد سليمان وإخوته جائعين، فردت الطفلة عتيقة بقجة صغيرة تحتوي على بقايا نباتات جافة، كانت تحتفظ بها من العام الماضي، وهي تسأل والدها عن تأخر الأمطار، فيسألها والدها عن أسماء هذه النباتات واستخداماتها، فتجيب عتيقة بسعادة بعدما فركتها ثم قربتها من أنفها واستنشقتها:

«هذا البعيثران وهذا القيصوم وهذه الجعدة».

تبدأ عتيقة بعزلها عن بعض ووالدتها تراقبها مسرورة بحماسة ابنتها، فيخبرها والدها:

«ابنتي، بهذه النباتات يمكننا معالجة الناس بإذن الله».

تبتسم عتيقة وهي تضع النباتات في البقجة البالية، وتبدأ في ترديد أسماء هذه النباتات واستخداماتها كي لا تنسى..

سليمان يسأل والده عن التبغ الذي كانوا يجلبونه عبر الحدود بكميات كبيرة ويبيعونه للبدو في الصحراء، فيخبره والده بأن ذلك لم يعد ممكناً الآن فهو لم يعد يمتلك المال. يسلي حمدان نفسه بسماع القصائد التي تخلد أشياء من الماضي بصوت ابنه الصغير دخيل الله البالغ من العمر خمس سنوات والذي بدت عليه قوة الذاكرة منذ صغره.

الأم انتهت من إعداد الطعام المكون من جلد مشوي فقط، كانت قد أخرجته لتوها من تحت الجمر، انهالت عليه ضرباً لتنظف ما علق به من رماد النار، سأل الأطفال عن اللبة (خبز الجمر) التي اعتادوا عليها، لكن والدتهم أخبرتهم بأنهم أقوياء يتحملون، وهكذا التهم الأطفال الجوعى وجبتهم اليومية بينما اكتفى الوالدان بمراقبة أبنائهم، فالزاد لا يكفيهم جميعاً.

بعد ذلك سكب دخيل الله الماء من القربة الجلدية في الصحن الذي تمسكه عتيقة، فدار الصحن على العائلة جميعهم حتى شربوا، ثم سقوا جميع البهائم؛ كل واحدة لها شربة واحدة لتستعيد قواها مؤقتاً، حتى يصلوا إلى قرية حقل حيث الآبار العذبة القريبة من البحر.

قبل أن تستأنف القافلة رحلتها تساءل الأولاد عن أحجية جديدة كما عودهم أبوهم، لكن هذا الأخير أخبرهم بأن الأحجية سيطرحها عليهم قريباً.

استأنفت القافلة الصغيرة رحلتها قبل العصر حتى مروا من عند جبال رملية تتجلى من ثناياها حجارة بحرية متحجرة، تدل على أن البحر كان هنا فيما مضى، هبت نسمات خفيفة حملت في طياتها أنفاس البحر، فهتف حمدان لأبنائه:

«من هنا سنرى قرية حقل».

ثم انبرى فوق أحد الكثبان الرملية، فلاحت له زرقة البحر الممتدة أمامه، وسلسلة من حقول النخيل قد اصطفت بمحاذاة الشاطئ في مشهد جمالي، وحولها البيوت الطينية للقرية، رفع أبو سليمان عصاه إلى السماء مردداً: الحمد والشكر لله.

***

وصلت عائلة حمدان إلى قرية حقل مساء، هناك استقبلهم أبو إبراهيم صاحب المكانة الاجتماعية العالية في قرية حقل.

جلس سليمان ودخيل الله على بساط شعر الغنم بجانب والدهما في المنزل الطيني لأبـي إبراهيم، في ذلك المجلس كان حمدان يتبادل الأحاديث بتوتر مع الرجال عن قلة الأمطار والقحط، بينما أبناؤه منصتون يراقبون الجميع في وجل، أحضر لهم الطفل إبراهيم صحن ماء وسقاهم وقبل أن يغادر، وإذا بأبـي إبراهيم قد دخل المجلس ويداه مخضبتان بالدماء.

أقام لهم وليمة صغيرة على الرغم من القحط الذي اجتاح الناس حينها، ولم يرضَ المضيف أن يترك ضيفه بل أصر على أن يقيم عنده حتى ينتهي من بناء منزل، شعر بالامتنان لهذا الرجل الذي عُرف بكرمه.

في اليوم التالي اجتمعت العائلة في الحقل المحاط بسور طيني، متأملين النخلات العالية التي تظلل المكان، بدأ حمدان بالعمل سريعاً، أرسل أبناءه يحضرون حجارة بحرية بينما زوجته أحضرت له ماء البحر كي يعجنه بالطين.

بنى في زاوية الحقل غرفة طينية وسقفها بسعف النخيل، ثم بدأ العمل على بناء زريبة للغنم في الجهة الشرقية من الحقل.

ركب الأبناء مع والدهم على البعير ليتعرفوا إلى قرية حقل، أخذ البعير يسير ببطء، كانت قرية صغيرة جداً، بيوتها قليلة وأغلبها مبنية من الخشب والطين، وقد أُلحقت زرائب للأغنام بجانب بعض هذه البيوت. في وسط القرية هناك قلعة صغيرة بناها الملك عبد العزيز آل سعود نظراً إلى أهمية المنطقة.

الطرق ترابية غير مسفلتة، فلم تكن هناك وسائل مواصلات سوى الإبل التي يتنقلون بها بين السعودية والأردن وبعض المناطق الصحراوية الحدودية، أما السيارات فتمتلكها الجهات الحكومية.

قرية حقل أقرب إلى الأردن منها إلى السعودية، معزولة عن أقرب مدينة سعودية (تبوك). مساحات صحراوية شاسعة غير مسفلتة، لذلك تبدو مهجورة كأنها دولة صغيرة منسية خارج الخارطة، كانت وما زالت ممراً دائماً للغرباء.

وقف حمدان وأبناؤه أمام شاطئ البحر، نزل من فوق البعير وأنزل أبناءه، ثم أشار إلى الضفة الأخرى من الساحل حيث سلسلة الجبال العظيمة الواضحة المعالم قائلاً لأبنائه:

«هذه مصر.. هذه جبال سيناء.. وهناك المرشرش».

***

كان منزلهم الطيني الجديد، على الرغم من صغره، مهجعاً ينام فيه العابرون، يزورهم يومياً أناس مهاجرون يمرون من قرية حقل يستجدون الصدقات، فلم يكن حمدان يرد أحداً على الرغم من ظروفه الشديدة، بمجرد أن يأتي أحدهم كان يهبه إحدى عنزاته القليلة أو شيئاً من تمرات نخيل الحقل التي لم تعد تكفيهم، فقد أصبح نصيب الواحد منهم تمرة واحدة في اليوم يمصها ويشرب معها الماء. أحوالهم تردت أكثر مما ينبغي، الأطفال لم يعودوا يقوون على العيش بلا خبز، اضطر حمدان إلى أن يقايض بجمله الوحيد صاعين من القمح المطحون في سوق العقبة، أدرك وجوب التحرك فوراً لإنقاذ عائلته.

في الحقل وبناء على أمر حمدان وقف أبناؤه يحدقون بتعجب إليه عندما أقبل بعمود حديدي طويل جداً، ثم انحنى وبدأ يحفر، تناوبت العائلة على الحفر.

ثبت العمود الحديدي داخل الحفرة قبل أن يردمها، ثم ثبت عموداً خشبياً في وسطها بشكل أفقي مستخدماً المسامير الكبيرة والحبال القوية، فجاءت سالمة ومعها ملابس قديمة، تناولها حمدان منها ثم قام بستر الفزّاعة وثبت قطعة خشبية مربعة مكان الرأس ليربط عليها الشماغ بإحكام.

وقف الأبناء يتأملون الفزّاعة التي بدت كشخص غريب قد سكن معهم، علق حمدان عندما قرأ التساؤل في عيون أبنائه:

«هذه الأحجية الجديدة التي سألتم عنها، إن لها حكاية ستسمعونها في المساء».

ثم خرج مع عائلته إلى البحر ليغسلوا عن وجوههم الأتربة، وهو يتنهد ويرمق فلسطين في الضفة القريبة.

***

كل ليلة يجلس حمدان مع أبنائه يحكي لهم قصصاً عن أناس رحلوا عن هذه الحياة لكنهم تركوا أروع الأمثلة في الكرم والمروءة والحصافة، حكايات يمتزج فيها الخيال بالواقع، يطرح عليهم بعض الأحاجي التي تتطلب منهم التفكير العميق، وتارة يحدثهم عن شجرة النسب، وفي بعض الأحيان يسدي إليهم نصائح بخصوص أهمية العمل لأجل الحصول على المال وأحياناً يحدثهم عن أنواع النباتات واستخداماتها.

في ذلك المساء اجتمعت العائلة في منزلهم الطيني بعدما تناولوا آخر ما تبقى من تمرات الحقل، بينما يتناهى إلى أسماعهم هدير أمواج البحر، ونباح الكلاب الضالة من خلف الجبال يمتزج معها حفيف سعف النخيل من فوقهم.

أشعل حمدان النار، فأضاءت وجوه أطفاله الذين جلسوا حولها بهدوء، عيونهم ترقب ملامح أبيهم وهو يداعب شاربه استعداداً لطرح أحجية ما قبل النوم، يتكئ دخيل الله على فخذ أبيه بينما سليمان وعتيقة يتكئان على أمهما منصتين.

أخبرهم أنه حان وقت أحجية الفزّاعة التي وعدهم بها وأن لهذه الأحجية حكاية، هي حكاية الحراس والحبوب والغربان...

بروتوكول

حين ماتت أمّي، ابتسم أبي وقال:

- ماتت أمّك.

لكنّني لم أصدّقه. فحينها، كان عمري عشر سنوات، ولم أكن أدري كيف «يموت» الإنسان، ولم أكن قد رأيت شخصاً «يموت» أمامي. وكان فعل الموت بالنسبة إليّ هو أن يغمض الإنسان عينيه ويسقط على الأرض. أما أمّي فلم تسقط يومها على الأرض، إنّما كانت جالسة على المرحاض وعيناها نصف مغلقتين. فكيف جزم أبي مباشرة أنّها ماتت من دون أن يتفقّد دقّات قلبها أو حتّى يلمسها؟ وعلى ماذا اعتمد في تشخيصه ذاك؟ هو بالمناسبة ليس طبيباً إنّما لديه مجموعة من الكتب الطبيّة التي كان يقرأ فيها ويطبّق علينا ما يتعلّمه منها كلّما مرضنا. لكن هل كانت قراءتها كافية لتجعله يشخّص حالة وفاة من «النظرة الأولى»؟ التبس عليّ الأمر ولم أقتنع أنّ أمّي ماتت. ثمّ إنّ ابتسامته تلك جعلتني لا آخذ كلامه على محمل الجدّ. وأنا لا أقول هذا لأنّه ابتسم مثلاً بسخرية كمن قال دعابة (ولو كانت دعابة، لكانت في غاية السخافة)، فيما كانت ابتسامته تلك تنمّ عن شيء من الرّقة والطمأنينة ورأيت أنّها لا تلائم موقفاً كهذا. يَصعب عليّ وصفها، ربّما هي أشبه بابتسامة طبيبٍ يزفّ خبر نجاح عمليّة جراحية لأهل المريض فيقول مثلاً:

- «لقد تمّت العمليّة بنجاح». ثمّ يبتسم «ابتسامة أبي» كي يطمئنهم.

ورغـم أنّني قلت قبل قليل إنّني لم أشاهد شخصاً يموت أمامي من قبل، فإنّ المشهد المطبوع في مخيّلتي عمّن قد ينقل خبر موت شخص ما، لا يشبه إطلاقاً ما شاهدته في تلك اللحظة. ففي الأفلام ومسلسلات التلفاز وفي كلّ ما أسمعه عن أخبار الموت، كان المشهد يرتبط دائماً بالحزن والبكاء والصّراخ والصّدمة. وهذا المشهد على الأرجح هو المشهد المطبوع في مخيّلات الجميع. أمّا ما رأيته في الحقيقة فكان لا يحاكي ذاك الكليشيه، إذ كان هادئاً جداً وجديداً! فأبي لم يبك ولم يصرخ ولم ينفعل. هو لم يظهر حتى شيئاً من تعابير الحزن أو الصّدمة أو المفاجأة. وكنت سأعفيه من كلّ هذا اللوم لو أنّه اكتفى بعدم إظهار أيّة تعابير على الإطلاق. كنت سأفسّر الأمر بأنّه لم يرد إخافتي أو صدمي بموتها. هو حتى لم يطلب منّي الابتعاد، بل ابتسم وطلب مني أن أساعده على حمل جسد أمّي من الحمّام إلى سرير غرفة نومها!

تسمّرت في مكاني وبقيت أحاول تحليل ابتسامته وأبحث عن سيناريو يبتسم فيه شخصٌ ما حين يموت آخر. وقد خطر على بالي موت العدو. فمثلاً حين يغزو الأشرار بلدة ما ويقضي عليهـم الجنود، يفرح سكان هذه البلدة لموت الأعداء. وهذا السّيناريو اقتبسته من أفلام ومسلسلات وقصص قرأتها واستنتجت منها أنّ لا أحد يبتسم لموت شخص آخر إلاّ إذا كان عدوّه، فهل كان أبي وأمي متعاديين؟ حسنٌ، أقرّ بأنّهما كانا دائمي الشّجار، لكنّني لا أظنّ أبداً أنّ الأمر وصل بينهما إلى العداوة.

على كلّ حال، كنت أحبّ أمّي ولم أكن أريدها أن تموت، فلماذا أصدّق أو أسرع في تصديق مثل هذا الأمر؟ كلّ ما حدث كان أنّ أمي أغمضت عينيها نصف غمضة ولم تعد تفتحهما، فهل يعني هذا بالضّرورة أنها ماتت؟ ربّما غابت عن الوعي أو ربّما غفت قليلاً!

كنت بحاجة إلى إثبات يجعلني أتأكّد ممّا حصل وإلا فلن أصدّق أبي. تذكّرت جهاز قياس نبض القلب الذي كنّا نستخدمه لأمّي خلال فترة مرضها. بالمناسبة، هي كانت مصابة بالسّرطان، وهذا أمرٌ سيدفع كثيرين إلى أن يقولوا لي إنّه لم يكن هناك داعي للتردد في تصديق أبي، وإنّ السّرطان مرض مميت، وهي بالتأكيد ماتت منه، وإنّ هذه هي نهاية الكثير من مرضى السّرطان للأسف، وإنّ هذه سنّة الحياة ويجب أن أقتنع وأكمل حياتي، وإن الموت كان أفضل لها من أن تبقى وتتألّم، وإنّها ماتت وارتاحت، وإنّها الآن في الجنّة تشاهدني فخورة من السّماء بصمودي، وإنّها وإنّها... وغيره من هذا الكلام الذي حفظته عن ظهر قلب. فأوّلاً هي لم تمت بسبب السّرطان، وسأروي لاحقاً سبب موتها، ولكلّ شخص أن يوافقني الرّأي أو لا يوافقني. أفّ، كم من قصص أريد إخبارها، لكنّني سأنتهي منها الواحدة تلو الأخرى كي لا أفوّت أيًا منها.

حسنٌ، سأكمل الآن. أين كنت؟

آه، كنت ذاهبة لأحضر جهاز قياس النبض. جئت به ووصلته بإصبع أمّي وانتظرت أن أسمع «زمّوره» وأن يُظهر رقمًا على شاشته يقرأه لنا أبي ويطمئننا أنّها بخير. لم أكن آنذاك أعرف الرابط بين الأرقام التي يُظهرها الجهاز وصحّة الإنسان، لكنّني كنت أسمع أبي يقول إنّ الجهاز مرتبطٌ بالقلب وأراه يفحص به أمّي مراراً. كنت أعرف أنّ القلب أساسي في الجسم، وإذا ما توقّف فإنّ الإنسان يموت. لذا لا بدّ من أن يكون لهذا الجهاز دور في معرفة الحيّ من الميت.

طال انتظاري ولم يظهر الجهاز أيّ رقم على شاشته، فظننت وقتها أنه معطّل. في الحقيقة لم يكن هناك أيّ نبض ليقيسه، لكنّني لم أكن لأعي هذا الأمر وقتها.

كنت أعرف أيضاً أن التنفّس أساسي، وأنّ من لا يتنفّس يموت. وبما أنّ الجهاز لم يعمل، حدّقت في صدرها لأرى إن كانت تتنفّس، فإذا به ينتفخ فجأة في شهيق عميق. ارتحت جدًّا، فهذا يعني أنها لا تزال حيّة. صرخت في وجه أبي:

-انظر إنها تتنفّس لقد رأيت صدرها يتحرّك الآن، هل رأيت؟!

وبنفس البرودة، وبنفس الطمأنينة وبنفس الثّقة التي حمّلها في ابتسامته السّابقة، قال لي محطّماً فرحي وارتياحي:

-كلاّ، هي لا تتنفّس، إنّما «طلعت روحها»!

مجدّداً، راودتني التّساؤلات نفسها. كيف عرف؟ ما الذي أكّد له الأمر؟ ربّما كانت تتنفّس؟ ما الذي أثبت له أن روحها «طلعت» خلال هذه الشّهقة بالذات؟ وهل للموت علامات محدّدة، علامات قرأ عنها في كتبه الطبيّة وطابقها فعليًّا؟ ثمّ لماذا هذه البرودة؟ أهي موهبة نادرة يتمتّع بها تجعله يتحكّم بمشاعره وانفعالاته بكلّ هذه البراعة؟ أم هو فرح؟ ارتياح؟ لم أفهم شيئاً.

أمر آخر استغربته جدّاً: لماذا لم يستدع طبيباً؟ كيف تحمّل مسؤوليّة تأكيد وفاتها بنفسه. ربّما أصابتها نوبة قلبيّة حتَّمت الإسراع في إسعافها. ربّما ضاق نفسها وأغمي عليها؟ لا أدري فأنا لست طبيبة وهو ليس طبيباً. ولا أحد يستطيع أن يجزم أنها ماتت ما لم يكن حاملاً شهادة طبيّة. ‏

back to top