الجريمة وراثية؟ العلماء يجهلون الجواب

نشر في 03-03-2017
آخر تحديث 03-03-2017 | 00:08
الجريمة وراثية
الجريمة وراثية
حقّقت الولايات المتحدة خطوات غير مسبوقة في محاربة الجريمة، لذا شهدت الجرائم العنيفة وغير العنيفة على حد سواء تراجعاً من ذروتها في العقود الماضية في هذا البلد. ولا شكّ في أن هذه أخبار جيدة. إلا أن هذا النجاح ربما يولّد فينا بسهولة إحساساً خاطئاً بالأمان لأننا نظنّ أننا حللنا المشكلة. ولكن ماذا لو كان كل ما نعرفه عن أسباب الجريمة يحمل كثيراً من الثغرات أو خاطئاً بالكامل؟

تخيّلْ تجربة لدواء جديد يستهدف داءً عنيداً بقدر ما هو مميت. يعثر الباحثون على مئة شخص يعانونه، ويعطون العلاج الجديد لأول 50 مريضاً يدخلون العيادة. أما الخمسون الآخرون في التجربة، فيوضعون في مجموعة الضبط ولا يأخذون أي علاج. يحقّق الدواء معدل نجاح مذهلاً.

كما لاحظتَ على الأرجح، تكثر الثغرات في تصميم هذه التجربة. أولاً، لما كانت تجربة عشوائية لا تأخذ الاختلافات القائمة مسبقاً بين المشاركين في الاعتبار، فتعجز الدراسة عن الإجابة عن السؤال: هل ساهم الدواء في تحسين حالة أي مريض؟ لا شك في أن الأوساط العلمية تسخر من تجربة مماثلة. رغم ذلك، تنبع معلومات كثيرة نملكها عن أسباب الجريمة (فضلاً عن مجموعة واسعة من المسائل في العلوم الاجتماعية) من تصاميم لا تُعتبر أفضل من مثال تجربة الدواء المليئة بالهفوات هذه.

يفتقر علماء الاجتماع عموماً وعلماء الجريمة خصوصاً إلى القدرة (بسبب عقبات أخلاقية وعملية عادةً) على إجراء تجارب عشوائية مضبوطة غالباً، علماً بأنها تُعتبر الأفضل في عالم البحوث. على سبيل المثال، نتوقّع أن يشكّل تراجع مستويات ضبط النفس أحد أسباب السلوك الإجرامي، حتى إن بعض أقوى توضيحات الجريمة يقوم على هذه الفكرة، كذلك ثمة أدلة كثيرة تدعمها. لكننا ربما نفترض أيضاً أن التربية السيئة تدفع الأولاد إلى تطوير مستويات متدنية من ضبط النفس. رغم ذلك، لا نستطيع أن نصنّف الناس عشوائياً ضمن فئات مستويات ضبط النفس المختلفة. ومن المؤكد أيضاً أننا نعجز عن توزيع الأولاد عشوائياً على الأهل. نتيجة لذلك، ما من سبيل يتيح لعلماء الجريمة التيقّ مما إذا كانت التربية تسبّب تراجع ضبط النفس، وما إذا كان هذا التراجع بدوره يؤدي إلى الجريمة.

صحيح أن علماء الجريمة عاجزون عن استعمال التجارب العشوائية، إلا أنهم يعتمدون على مجموعة متنوعة من الأساليب الإحصائية بهدف دراسة طرائق التربية وضبط النفس، وضبط النفس والجريمة. في هذا السياق، يحاولون استبعاد أبرز توضيحات بديلة تعلل لمَ تؤدي التربية إلى تراجع ضبط النفس، ولمَ يقود هذا التراجع إلى السلوك الإجرامي. وكشف هذا البحث باستمرار أن أساليب التربية ترتبط بتطوير الأولاد ضبط النفس، وأن الأخير في الطفولة ينبئ بنتائج مهمة عدة في المستقبل، من بينها السلوك الإجرامي. يقوم عمل علماء الجريمة عموماً على اكتشاف هذه الأنواع من الروابط بالتحديد.

لكن هذه الدراسات لن تحقق مطلقاً الدقة التي تتمتّع بها التجارب العشوائية المضبوطة لأن العوامل كافة، كضبط النفس والانجرار وراء النظراء المنحرفين، تُعتبر وراثية إلى حد ما.

الوراثة والانتقال الاجتماعي

وراثية! يُعتبر هذا المصطلح سلبياً في علوم مثل علم الجريمة، ويشكّل غالباً مصدر كثير من الحيرة. يختلف البشر في الطول، والوزن، والشخصية، والميول السلوكية: لا يُعتبر الجميع لطفاء ومنفتحين، كذلك لا نتمتع كلنا بطول لاعب كرة سلة محترف. ولكن إليك أهم جزء: ترتبط الوراثة بأصول هذه الاختلافات. وعندما نقول إن مسألة ما وراثية، يعني ذلك أن الاختلافات الوراثية تؤدي دوراً في توليد اختلافات مرئية.

ربما تكون للتنوّع في مجموعة جيناتنا أهمية عندما نحاول أن نفهم لمَ يستطيع البعض بسهولة تسديد النقاط في كرة السلة، أو تأليف معزوفة موسيقية، ولمَ لا يكفّ البعض الآخر عن انتهاك القانون. تجعل تأثيرات الاختلاف الجيني عدداً من الناس أكثر تهوراً أو تسرّعاً مقارنة بغيرهم أو أكثر صحة أو عجزاً. ومع أن الإقرار بهذا الواقع أمر صعب، تجعل الجينات البعض أيضاً أكثر ميلاً إلى انتهاك القانون مقارنة بغيره.

أخفقت تجربة الدواء الافتراضية في الأخذ في الاعتبار بعض مسائل توضح الاختلاف بين مَن تلقوا العلاج وبين المشاركين في مجموعة الضبط، ما فتح الباب أمام تفسيرات بديلة تعلّل التحسّن الذي اختبره مَن نالوا العلاج. على نحو مماثل، يشير اكتشاف أن معظم النتائج البشرية وراثي إلى ضرورة أن تأخذ دراسات السلوك الوراثة في الاعتبار بغية استبعادها كتفسير بديل.

لنفترض أنك تتساءل عما إذا كان بعض أنماط التربية يؤثر في ضبط النفس لدى الولد. من السهل التوصّل إلى أدلة على أن طريقة تعامل الأهل مع أولادهم ترتبط بمستوى ضبط النفس الذي يتحلّى به الولد لاحقاً في حياته. لكن الأهل لا ينقلون إلى أولادهم دروساً عن تعلّم ضبط النفس فحسب، بل يمنحونهم أيضاً جيناتهم. ترث نصف موادك الجينية من أمك والنصف الآخر من أبيك. وإذا تجاهلت عامل الانتقال الوراثي هذا، تعزو خطأً أي رابط بين الأهل والولد إلى الانتقال الاجتماعي فحسب.

تشكّل طريقة تعامل الأهل مع الولد في جزء منها نتاج شخصيتهم وطباعهم. وتُعتبر الشخصية بدورها في جزء منها وراثيةً. لذلك، ربما تعود المراقبة، التي تُظهر أن للأهل والأولاد المستويات ذاتها من ضبط النفس، إلى الانتقال الاجتماعي أو الانتقال الوراثي أو كليهما معاً.

لكن معظم الأدلة عن أسباب الجريمة يتغاضى عن الانتقال الوراثي. رغم ذلك، اكتشف بعض البحوث أن تأثير الانتقال الاجتماعي (أي التربية) في ضبط النفس لدى الولد، الذي حُدد مسبقاً، يصبح أقل حسماً عندما نأخذ التأثيرات الجينية في ضبط النفس في الاعتبار. بكلمات أخرى، عندما تولي الانتقال الجيني الاهتمام الملائم في بحثك (التفسير البديل الذي يتجاهله معظم علماء الجريمة)، يضعف تأثير التربية في ضبط النفس أو يختفي بالكامل.

لنتأمل في نوع مختلف من تأثيرات التربية، نوع يظهر في نشرات الأخبار كثيراً: التأديب بالضرب. تناولنا أخيراً العلاقة بين أسلوب التأديب هذا وبين المشاكل السلوكية لدى الأولاد. ولكن عندما نأخذ الانتقال الوراثي في الاعتبار، يختفي تأثير الضرب بالشكل الذي يفكّر فيه معظم الباحثين. بعبارات أخرى، لا تدعم أدلتنا خلاصة أن التأديب بالضرب يسبب مشاكل سلوكية بالمفهوم الذي يظنّه معظم علماء النفس.

دور البيئة المحيطة

علاوة على ذلك، لا تقتصر معضلة الوراثة على التربية. على سبيل المثال، من الواضح أن الجريمة لا تتوزع بشكل عشوائي في الأحياء، بل تبدو عاملاً مستقراً نسبياً يميّز منطقة ما على مر أجيال عدة. وغير العشوائي أيضاً العملية التي يقسّم فيها الناس أنفسهم في أحياء. يتجمع الناس في مناطق محددة استناداً إلى مجموعة عوامل، يشكّل الدخل أبرزها. ولكن إليك نقطة مهمة: إذا كانت أي من الخصال التي تؤثر في خيارات الناس السكنية وراثيةً وتجاهلنا تأثيرها، تصبح اكتشافاتنا بشأن تأثير عوامل الحي في الجريمة غير دقيقة.

كشفت دراسة مذهلة في السويد أخيراً أن الأحياء المحرومة تواجه معدلات جريمة أعلى. رغم ذلك، اختفى تأثير الحي عند أخذ عوامل خطر أخرى تتركّز في عائلات محددة في الاعتبار. ومرة أخرى، ضعف تأثير الانتقال الاجتماعي (وفي هذه الحالة اختفى بالكامل) عند أخذ عوامل أخرى مثل الانتقال الوراثي في الحسبان. ولكن هل يضمن هذا الاكتشاف نتائج مشابهة في عينات أخرى حول العالم؟ كلا، إلا أن علماء الجريمة قلما يتوقفون عند احتمال أن تكون دراساتهم ملوثة بتأثيرات وراثية مخفية.

الاختلاط الجيني

توصف هذه الظاهرة علمياً بـ«الاختلاط الجيني»، وتدفعنا أسباب عدة إلى الاعتقاد بأنها منتشرة في بحوث كثيرة تقدّمها علوم الاجتماع عموماً وعلم الجريمة خصوصاً. يشير بحثنا الخاص حيال هذه المسألة إلى أن المقدار الضئيل من التأثير الوراثي الذي لا يؤخذ في الاعتبار يلوّث اكتشافاتنا ويشكّك في دقتها. نتيجة لذلك، ربما يكون أكبر جزء مما نعرفه عن أسباب الجريمة مبالغاً فيه أو حتى خاطئاً بالكامل.

لا نهدف من ذلك كله إلى التشكيك في إنجازات علماء الاجتماع، فنحن في النهاية عالما اجتماع مثلهم. ولكن على علماء الاجتماع عموماً وعلماء الجريمة خصوصاً تبني تصاميم بحوث تتيح لهم أخذ الاختلاط الجيني في الحسبان. ولتحقيق هذا الهدف، من الضروري تبني تصاميم قادرة على التمييز بين العوامل الوراثية وبين تلك البيئية. من هنا تنشأ الحاجة إلى تحليل بيانات الأقارب.

لا يختلف اعتبار ولد واحد في العائلة عينة كافية (كما يفعل علماء الاجتماع عادةً) عن إجراء تجربة الدواء المغلوطة. طوال عقود، حرص علماء السلوك الوراثي على تحليل بيانات الإخوة (خصوصاً التوائم)، علماً بأن هذه تشكّل أحد الأساليب الأكثر فاعلية للغوص في العلاقة بين متغيرين.

رغم ذلك، لا يستعين معظم علماء الجريمة بهذه التصاميم. لا يعود خيارهم هذا إلى سبب منهجي جيد، على حد علمنا على الأقل. على العكس، يبدو أن الكلمة «جينة» تسبب الغثيان لعلماء الاجتماع. قبل وقت ليس ببعيد، نشرت مجلة بارزة في مجال علم الجريمة مقالاً يدعو إلى وقف الدراسات التي تعتمد على توائم. لنتوقف عند هذه المسألة قليلاً. ثمة مَن يُطالب فعلاً بإزالة تقنية بحث ممتازة من هذا المجال، تقنية تُعتبر بالغة الأهمية عند محاولة استبعاد مشاكل واسعة الانتشار مثل الاختلاط الجيني.

إذا أراد علماء الجريمة والاجتماع مواصلة تقدمهم وعملهم على اكتساب خبرات علمية أوسع، يلزم أن نكفّ عن إجراء دراسات تماثل تجارب الدواء السيئة.

(بريان بوتويل، جي. سي. بارنز)

الأهل لا ينقلون إلى أولادهم دروساً عن تعلّم ضبط النفس فحسب، بل يمنحونهم جيناتهم أيضاً

معظم الأدلة عن أسباب الجريمة يتغاضى عن الانتقال الوراثي

دراسة مذهلة في السويد كشفت أخيراً أن الأحياء المحرومة تواجه معدلات جريمة أعلى
back to top