زرايب العبيد

نشر في 25-02-2017
آخر تحديث 25-02-2017 | 00:02
كتاب زرايب العبيد
كتاب زرايب العبيد

القدر يجمع ويفرّق

شارع ترابي طويل وضيق، تراصّت البيوت على طرفيه جنباً إلى جنب، جمع بينها الشكل والطلاء الأبيض الذي بهت وتساقطت أجزاء كبيرة منه، وكذلك ارتفاعها غير المتساوي تتخلّلها بعض الدكاكين الصغيرة التي تعود ملكيتها في الغالب لساكني البيوت. وفي انعطافته مع شارع آخر ثمة صيدلية صغيرة بلا يافطة. إنها الوحيدة هناك، أطلقوا عليها اسم «دكان جوسيبي»، الاسم الذي لا يحبه صاحبها ويناديه به الناس في غيابه.

قال صبيٌّ لأمه في أحد هاتيك البيوت: «هناك رجل كبير يقف بالباب يريدك» فاستغربت الأم مجيء رجل إلى بيتهم لا يعرفه ابنها. المرضى والغرباء يقابلهم زوجها دائماً في دكانه. كان صباح يوم أحد، وكانت مشغولةً بالطبخ، فيما زوجها جالس في باحة البيت يدخن غليونه ويقرأ كتاباً، وأحياناً يضع الكتاب جانباً ويلاعب طفلةً صغيرةً سمراء تبدو كحفيدته.

تجاوز الطفل والده وذهب إلى أمه ليخبرها عمّن يدقّ الباب، قال لها:

- الرجل يودّ مقابلتك لأنه سألني عنك وليس عن أبي.

مسحت يديها بخرقة الطبخ ومشت ناحية زوجها وأخبرته. استغربا أن يأتي رجل ويطلب ربة البيت وليس صاحب البيت. قال لها زوجها:

- اذهبي وانظري، ربما كان مرسلاً من المستوصف أو الإرساليّة.

بدت مستغربةً أكثر ممّا هي مترددة، وتقدمت ناحية باب المنزل ومعها كـٌّم من التساؤلات. تبعها الطفلان. مدّت عنقها من وراء الستار الذي ينسدل على الباب حتى صارت في منتصفه ونظرت من يكون الرجل. كان واقفاً أمام البيت مديراً ظهره للباب باتجاه الشارع، يرتدي جرداً نظيفاً ويشبك يديه وراء ظهره. كان طويلاً. قالت في نفسها لمّا رأت نظافة ثيابه من الخلف: «هذا الرجل أتٍ خصيصاً لمقابلتي. الجرد لا يكون ناصعاً إن استعمل يومياً».

كلّمته ليلتفت إليها:

- أينعم، كلّمني يا أخي.

التفت الرجل سريعاً وأجابها:

- السلام عليك يا أختي.

ثم أشاح بنظره بعيداً عن وجهها.

بادلته السلام وبها لهفة لمعرفة من يكون وماذا جاء به! لم يكن يسيراً عليه التقاط نفس أو كلمات للحديث، فهو لا يستطيع أن ينظر إليها ملياً ويريد في اللحظة عينها أن ينظر بروية. في تلك اللحظات القصيرة الجامعة، ورغم وجود الباب بينهما، شعر بالحاجة لإعادة ترتيب كلماته مرةً أخرى، حتى تكون فاعلة ولا تغلق المرأة الباب في وجهه وتمتنع عن الحديث معه. لكن لماذا تغلق الباب في وجهه إذا كان صوتها الذي كلّمته به وديعاً لطيفاً؟ ربما يتحتّم عليه التوقّف عن التكهنات قبل أو دون خوض التجربة.

لن يكون لائقاً أن يقول لها: «جئت لأتحدث مع عتيقه بنت تعويضه خادمة الحاج محمد بن عبد الكبير بن علي بن شتوان». كلا كلا، إن عليه عدم قول ذلك وتجنّب لفظ الخادم. من الأنسب ألاّ يفعل بالرغم من أنه لا يجد تعريفاً آخر لتعويضه؛ موضوع الزيارة والحديث، فلا أحد أعطى الخادمة اسماً أو وصفاً في الحياة غير ما جعلها عليه الرق. إنه لا يعرفها بشيء آخر ولا يعرف ما يقول في هذه اللحظات تحديداً لابنتها. يتوجّب عليه الحديث عن جارية أو أمة بصفتها إنساناً، دونما ذكر ما يشير إلى منزلتها الدونية، ليناقض بذلك ثقافةً دمغت مجتمعاً.

أنّى له ذلك؟

أجابها عندما سألته من يكون بأنه يودّ التكلم معها على انفراد، أي سيتكلم مع امرأة لا يعرفها ولم يرها من قبل، وهي كذلك ستستمع لمجهول جاء يروي شيئاً بصفته قريبها؛ شيء لا تعرفه عن نفسها وعن خادمتهـم؟ أمها.

إنهما كمبعوثين للتو من حياة أخرى لم يكونا فيها تماماً كما هما الآن في حياتين مختلفتين. لكن ماذا لو لم تقبل السيدة أن تعود وفضّلت غلق بابها نهائياً والرجوع إلى مطبخها والاستمرار في حياتها بدون هذه الحكاية؟ ماذا لو لم تشغفها معرفة شيء ممّا جرى؟

بعضٌ منه كان يفكّر في ذلك ويحسبه ويتضايق منه، أما بعضه الآخر، المتحرّر المتفائل، فيذهب أبعد من ذلك حتى يصل حدَّ الجلوس في مربوعة البيت بمكانة الضيف الموقّر الجانب.

قبضة يدها على الباب، وصوتها في كلمات وجيزة، هذا كل ما أدركه منها.

ماذا يقول لها، بمَ يجيب عن سؤالها: «من أنت وماذا جئت تريد؟»

هل ستعرفه من اسمه أم لا تكون سمعت به من قبل على الإطلاق؟

سوّى جرده على كتفه وثبّت عينيه على الباب. خرجت الكلمات متقطّعة من حلقه:

- أريد أن أتكلم مع عتيقه بنت تعويضه.

- ومن أنت؟

كما توقّع: سددت له سؤال الكينونة. تريّث قليلاً ثم أجاب:

- أنا علي بن شتوان.

- من؟

قالت المرأة بنبرة عالية تشوبها الدهشة والتفاجؤ.

- أينعم يا أختي، أنا علي بن شتوان.

- قل حاجتك.

-لا يجوز أن أتكلم واقفاً في الشارع. ما جئت لقوله لا يقال هكذا. هلا سمحت لي بالدخول؟

- لا أستطيع أن أدخلك ولا أن أسمعك، أنت غريب عني وليست بي حاجة لحديثك. دعني أعش حياتي ولا تقلقني بشيء، لا أريد الاستماع لكل ما تودّ قوله، لم يعد ثمة جدوى.

- اسمعيني أرجوك.

- كلا.

وامتدت يدها وسحبت الطفل الواقف بينهما على العتبة ثم أوصدت الباب بعجلة.

ظل واقفاً مكانه لا يعرف للحظات ماذا يفعل، ثم تقدم خطوات إلى باب البيت وتكلم، وكأنها ما زالت وراء الباب تراه من بعض شقوقه:

«إذا كنت تسمعينني، أنا موجود بالفندق البلدي. إذا فكّرت في الكلام معي أرسلي خادماً إلى هناك وسيجدني حالاً. السوق كلها تعرفني. سأضع لك على العتبة كاغدك الشرعي لتأخذيه حتى إن لم ترغبي في مقابلتي أو الحديث معي. هذا الكاغد ما كتب إلا لك ومن أجلك وحدك، ليس لغاية أخرى أو هدف، والله شاهد على ما أقول. أرجو أن تعطيني فرصة الكلام»، ‏واستحلفها بحياة أولادها، «ورأس عيالك».

أخرج من فرملته روزنامة ملفوفة ربطت بخيط، وضعها في الشق ما بين الباب والعتبة المرتفعة وقال:

سلام الله عليك يا عتيقه بنت محمد بن امحمد بن عبد الكبير بن علي بن شتوان، هذا حقّك ردَّ إليك فخذيه ولا تردّيه.

ثم ابتعد عن الباب خطوات وعيناه معلقتان به.

القاع مليء بما تعجز عتيقه عن وصفه. عيناها اللوزيتان تختصران بصمت حكاية حب الأمة البائسة لسيدها، تنكفئ بهما على مساعدة طبيب الإرساليّة. تُمرّض الأطفال والنساء بالدرجة الأولى، ونادراً ما تتكلم مع أحد. يوازي ذلك الصمت حديث طويل مع الروح عن قلق الهوية ما بين لونين: جلد أسمر وعينان لوزيتان وحزن ليس له انتماء إلى دم محدّد.

‎ ‏

‎ ‏

‎ ‏

back to top