من يجرؤ على ما بعد الحداثة؟ (2 من 4)

نشر في 19-02-2017
آخر تحديث 19-02-2017 | 00:01
 فوزي كريم يُخطئ من يفهم "ما بعد الحداثة" على أنها مرحلة حلّت على حياة وثقافة الغرب، بعد انتهاء مرحلة "الحداثة"، التي امتدت منذ القرن السابع عشر. إنها في حقيقتها حركة، تيار أو أيديولوجيا، جاءت مناهضة ومعادية لـ"الحداثة". وهذه الحركة مقتصرة على تجمعات، ومُمثَّلة في عدد من الكتاب، جامعيين على الأغلب، لعل أبرزهم وأكثرهم تأثيراً: فوكو Foucault، دريدا Derrida، ليوتار Lyotard، وهم فرنسيون جميعاً، يُضاف لهم الأميركي رورتي Rorty. ورغم أن هذا التيار بدأ بصورة فعلية منذ الستينيات، فإن أفكاره تعتمد جذوراً مغذية تعود إلى مطلع الحداثة ذاتها.

سأحاول اعتماد خط بياني إيضاحي، هيكلي دون لحم ودم، يبدأ من تلك الجذور، من أسس الحداثة في القرن السابع عشر، على يد كل من بيْكون Bacon (توفي 1626)، ديكارت Descartes (1650)، ولوك Locke (1704). وفيما بعد على يد كانت Kant (1804) في عصر التنوير. كان الإيمانُ بالعقل كسبيل للمعرفة هو منارةُ الهداية، لذا سمي عصر الحداثة بعصر العقل، ومنه تتالت أركان الحداثة الأخرى: حين يكون العقلُ قدوةَ الفرد، فالفردية أصبحت عمادَ الأخلاق. حين يكون العقل قدوةً لفهم الطبيعة وسبيلاً للمعرفة، فهذا يقود إلى الايمان بالعلم.

واحترام قدر الفرد قاد سياسياً إلى الديمقراطية الليبرالية، معها تداعت ظاهرة الاضطهاد العنصري والذكوري. وهذه الفردية في الاقتصاد قادت إلى السوق الحر، ومع الانتصار للعلم قامت الثورةُ الصناعية، وتقدمت الطبابة والصيدلة. الإيمان بالعقل، بالطبيعة، بالإنسان، بالعلم شكل أركان الحداثة الصلبة التي يقطف الإنسان ثمارها الغزيرة التنوع اليوم.

ولكن شرخاً فلسفياً حدث في التعامل مع العقل كسبيل موثوق للمعرفة. لقد سعى التنويريون إلى تعزيز حصيلة منجزاتهم العقلية بتصور جديد لله، بعيد عن إله الأديان التوحيدية المعروفة. أصبح الخالقُ لديهم قوة تجريدية، رياضية، معزولة عن الإنسان، ومُدركة بالعقل. هذه النزعة العقلانية اتسعت في إنكلترا وفرنسا، لكن ردود الفعل المضادة اتسعت في ألمانيا، حين فزع الفلاسفةُ فيها من تجريد الخالق، وترك الإنسان عارياً عن المعيار التقليدي المُعتمد لكل قيمه الروحية. ولقد كان الفيلسوف "كانت" أبرز هؤلاء الفزِعين، وأكثرهم تأثيرا في هجومه على العقل وقدراته. لكنه، هو المنتصر للعقل بين التنويريين، تشكك بقدرة العقل على المعرفة في حقل واحد فقط، هو حقل الإلهيات وما وراء الطبيعة، حقل الواقع الحقيقي Reality. بذلك، انتزع الدين من حقل المعرفة العقلية، وأدخله في حقل الإيمان. ولقد فتح بذلك الطريق للنزعة الميتافيزيقية المثالية واللاعقلانية في القرن التاسع عشر.

في تاريخ الفلسفة مثّل "كانت" تحولاً أساسياً من "الموضوعية" كمعيار إلى "الذاتية" كمعيار... ومعه سقط الواقع الحقيقي reality الذي يقع خارج قدراتنا المدرِكة بصورة تكاد تكون تامة.

إن قصة الفلسفة بعد "كانت" أصبحت قصة الفلسفة الألمانية. الفجوة التي اتسعت بتأثيره بين الذات والموضوع، بين العقل والواقع الحقيقي، تواصلت بحيث أتاحت المجال لميتافيزيقيا التكهنات وللنزعات اللاعقلانية في حقل المعرفة بالقرن التاسع عشر، من هيغل، شوبنهاور، كيركغارد، نيتشه.. إلى هايدغر. وعبر هؤلاء جاءت مجموعة المابعد حداثيين الأوروبيين، فوكو، دريدا، ليوتار..، التي أسست للمذهب اللاعقلاني في القرن العشرين.

إنها تنكر بأننا نستطيع أن نتحدث بصورة ذات معنى عن واقع موجود بصورة مستقلة عن عقولنا. وهي نسبية إذا لم تكن تشككية في نظرية المعرفة، رافضة للعقل كأداة بحث عن معرفة موضوعية، وبدل ذلك تعزز من شأن العاطفة والمشاعر (هايدغر). وهي مضادة للفردية، تحصر المعرفة بحدود القوة الاجتماعية (فوكو)، وهي ناشطة في حقل علم الأخلاق والسياسة، ومع علم الجمال تحول اللغة عبر التفكيك إلى وسيلة لعب (دريدا). أما في التوجه السياسي، فهي يسارية، وبتطرف لا يقرب المساعي التي تتعامل مع العقل، الكياسة، التسامح التي ميزت مبادئ الحداثة. إنها النقلة التي تستحق منا وقفة خاصة، لنرى دون منظور مكبر كم هو غربي هذا الخيط البياني الفلسفي الذي أوصل لما بعد الحداثة، التي يدعيها العديد من المثقفين العرب، ونقاد الأدب العرب.

back to top