الولادة مرتين

نشر في 18-02-2017
آخر تحديث 18-02-2017 | 00:00
No Image Caption
هذه هي الزيارة الثانية لي والأخيرة لمعرض جدة للكتاب الذي صادف إقامته هذا الأسبوع، قررت أن تكون الزيارة السريعة خاصة للبحث عن الكتب العلمية والبحوث الخاصة بتخصصي المهني، دخلت دار نشر عراقية لمحت لديها عناوين رائعة، بعد تصفح سريع.. أخذت بعض الكتب.

– كم حساب هذه الكتب يا عم؟

– أرني.. هذه جميعها بــ 80 ريالا.

– أوه لم أتوقع أن كل هذه الكنوز تباع بهذه القيمة الزهيدة.

– لا أحد يقتني هذه الكتب سوى الباحثين وطلاب الماجستير والدكتوراه.

– آها.. فهمت (ناولته ورقة نقدية فئة 500 ريال).

– عفوا.. لا يوجد عندي بقية المبلغ حالياً.

– إذن انتظرني أذهب للدار المجاورة أبحث عندهم عن صرف لهذا المبلغ.

فجأة جاء صوت من زاوية دار النشر:

– أنا سأدفعها عنك.

التفت فإذا هي سيدة تتألق بوشاح زاهٍ ودون أن تلتفت لي مدت للبائع بثمن الكتب.

– لكن يا سيدتي.. لا.. لا.. أنا سأدفعها.. سأصرف المبلغ وأعطيه.

– لا.. اعتبره وصل.

– لن أرد كرمك.. شكرا لك سيدتي.

– العفو أخي.

– امممم تبدو هذه الدار متخصصة في كتب علم النفس.. مليئة بمراجع عديدة وبحوث متنوعة مفيدة لكل طلاب الدراسات العليا.. فهل أنتِ طالبة ماجستير أم دكتوراه؟

– لا.. أنا دكتورة.. محاضرة في قسم علم النفس.

– تشرفت بك سيدتي.

– أنا وائل.. تخصصي في علم النفس.. وأعمل حاليا في عيادة نفسية في أحد مستشفيات الجنوب.

– تشرفت بك.. يبدو أنك تحب تخصصك.

– جدا.. وأحب أن أطور نفسي فيه، كيف هو التدريس في الجامعات؟

– مرهق.. لم يعد هناك طالبات يردن التعب من أجل العلم.

– على الأقل هن أفضل من الطلاب في التعلم والاجتهاد.

كان البائع الكهل يراقبنا ويبتسم.. كأنه يستغرب أن شابا وفتاة يتحدثان بكل أريحية وهما يلتقيان لأول مرة.

– هل تريد كتبا رائعة أخرى في مجال علم النفس؟

– أتمنى.

– تعال معي.. هناك دار نشر توفر كتبا مترجمة رائعة.

سرت وإياها جنباً إلى جنب نتحدث، كنت أسير ببهجة حدوث صدفة رائعة، فيما كانت تسير بخوف وارتباك لا يمكن إخفاؤهما.

– أنت من الجنوب؟

– نعم من مدينة أبها تحديدا.. هل تعرفينها..؟

– زرتها وأنا صغيرة جداً.. لا أذكر منها سوى بردها الشديد.

– وأنت من جدة نفسها أم فقط زائرة للمعرض من مدينة أخرى؟

– أنا من جدة.

مضت نصف ساعة ونحن نتناقش حول العناوين وشجون التعليم، حين همت بالاستئذان كنت بين خيارين إما أن أتركها تمضي ولن أجدها أبدا بعد هذا.. أو أن أطلب شيئا نتواصل من خلاله، هزمت كل شيء وقلت لها:

– هذه صدفة ثمينة، استفدت من حديثك كثيرا.

– أنا استفدت أيضا رغم الوقت القصير لكن حديثك مليء بالطموح وهذا شيء جميل في هذا الزمن.

– هذا من لطفك.. أستأذنك وأسعد بالتواصل معك عبر أي وسيلة تواصل تناسبك.

فكرت قليلا.. أخرجت مذكرة صغيرة من حقيبتها وقالت بكل ارتباك:

– لا بأس.. ربما نتواصل يوما في ما يفيد في التخصص.. هنا تقام دورات كثيرة ستفيدك جداً في مجال علم النفس.. سأوجه لك دعوة رسمية لحضور بعضها، اكتب لي اسمك ورقمك هنا.

****

غادرت سريعاً إلى المطار للحاق بالرحلة.. أحب الوقت الذي أقضيه في ركن أحد مقاهيه.. أتأمل وجوه المسافرين وخطواتهم، وأقرأ كتاباً.. أو أنهي الرد على رسائل قديمة تكاسلت عنها، أشعر بالرضا عن برنامج رحلتي الذي وضعته لقضاء إجازتي القصيرة، فبعد صدور نقلي من عملي من الباحة إلى أبها أحببت الاحتفال مع نفسي بهذه المناسبة التي انتظرتها طويلا، قضيت أسبوعاً في دبي، أخذتني فيه مهرجاناتها البديعة التي لا تنتهي إلى عالم آخر، ثم أربعة أيام في جدة، ولحسن حظي أنها صادفت أيام إقامة معرض الكتاب فيها، هكذا تنتهي إجازتي بين شعورين، شعور انتهاء فترة من العمر تمنيت أن أقضيها بأفضل مما كان، وشعور بداية عملي في مكانٍ جديد قديم، جديد لأني للتو نقلت إليه، وقديم لأنها مدينتي القريبة إلى قلبي. نعم لم أسكن فيها، لكن لم يمر يوم دون أن أتجول بها لأنها قريبة جدا من قريتي، فهي وجهتنا اليومية في كل ما نحتاجه، ووجهتي الخاصة إذ لي فيها ذكريات كثيرة ليس من بينها ذكرى حب، الحياة منعطفات، ندمي الوحيد حالياً بعد أن أصبح عملي قريبا من الأهل، ندمي أنه ليتني استمتعت بالغربة التي عشتها، مرت أوقات كثيرة في الغربة وأنا في ضيق وكآبة، ليتني عشتها كما يجب واستفدت أكثر منها، هذه النصيحة التي سمعتها يوماً ولم أصدقها، ها أنا اليوم أتذكرها بكل حسرة، كانت النصيحة: استمتع بالغربة التي تعرف أنها ستنتهي يوما ما، استمتع بها وتعلم أشياء جديدة.

وقتها كنت أهزأ بمن قالها لي، واليوم أقول ليتني عملتُ بها، حتى حياتنا غربة نعرف أنها ستنتهي يوماً ما، فلماذا لا نستمتع بها دون التفكير في النهاية، النهاية التي حرمتنا من حكايات رائعة كان يجب أن نعيشها، لكنها الكبرياء، كبرياء أني لن أعطي حبي لشخص لن يبقى معي إلى الأبد، هكذا فقدنا أشخاصا رائعين كم تمنيت لو كانت لهم بصمات في حياتي، قضيت الرحلة أتأمل السنوات الخمس التي قضيتها بعيدا عن قريتي، سنة في مدينة الخبر، وأربع سنوات في الباحة مرت كأنها أربع صفحات خالية من عمري، عام واحد في الخبر شهد قصة حب رائعة عشتها.. رائعة وقاسية، بعدها كان قراري الأغبى في حياتي وهو الانتقال إلى مدينة قريبة من أبها التي كان نقل الوظيفة إليها يحتاج إلى سنوات من الانتظار، لماذا سميته قراري الأغبى، ولأني عرفت أن أسوأ ما يحدث أن تكون في مكان قريب وليس قريباً، كنت سعيدا جدا حين نقلت عملي من الخبر إلى الباحة.. كي أكون قريباً من أهلي الذين يقطنون قرية على أطراف أبها، واكتشفت أن أعوامي كلها أصبحت تعب المسافات، عرفت حينها أن المنتصف هو أسوأ مكان، الراحة أن تكون قريباً جدا.. أو أن تكون بعيداً جدا.

ليس النسيان شيئا تحت سيطرتنا لنقرره، بل إنه يفرض علينا ما لا نريده فينسينا من نريد تذكرهم ويذكرنا بمن نريد نسيانهم، كنت أظن أن انتهاء الغربة وعودتي تعني أن أعود ذلك الشخص القديم الذي كان قبل غربته، لكني وجدت نفسي في مرحلة تكوّن جديد، في كل مرة ننتقل للعيش في مكانٍ جديد نتجدد دون أن نتعمد هذا.

قررت أيضا أن لا أسكن القرية وأن أسكن قريباً من عملي في مدينة أبها، أبها هذه مدينة جنوبية كطفلة تحب الحياة والفرح، لكنها تُجبر على النوم مبكراً، اخترت سكناً مناسباً في حي شمالي لا يزال نصف مبانيه تحت الإنشاء، هادئ جداً لكنه فقير الخدمات ككل الأحياء الجديدة، في الأسابيع الأولى فيه عرفت أن أكثر من يقطن هذا الحي هم من خارج المدينة، أكثرهم لا علاقة لهم بالمدينة سوى أنها مكان العمل فقط، بعد صلاة عصر أحد الأيام تحادثت مع أحدهم.. قال لي: تقاعدت عن عملي ولكني لم أستطع أن أترك أبها، حتى زوجتي وأولادي رفضوا أن نعود إلى الرياض.. رغم أنهم كانوا لا يحبون أبها حين انتقلت إلى هنا قبل عشر سنوات، لم أسأله عن السبب لأني أعرف أن حب مدينة ليست هي التي ولدت وعشت بها.. هو حب صادق لا يمكن حصره في سبب واحد، وتساءلت هل سأحب أبها مثله، لا أدري، يبدو الأمر صعباً على شخص مثلي، عاش في الريف أغلب عمره، الحقيقة أن الصلاة في جماعة الحي جعلتني أتعرف إليهم تدريجياً.. وهم أيضا بدؤوا بالتعرف إليّ أكثر، تساءلت لو كنت لا أصلي الجماعة معهم كم سأحتاج من الوقت لأعرفهم، خاصة مع انشغالنا جميعاً بأعمالنا، الناس طيبون بالفطرة، لكني أعرف أني لو تعمقت بهم لحدثت بيننا خلافات كثيرة، وكأن فلسفة الحياة الهادئة تقول دائما: كن ذكيا في حساب المسافة بينك وبين كل شخص مهما كانت جاذبيته وجماله.

الصباح لا ينتمي لكل هذا الزحام، الصباح الحقيقي بقي وحده هناك، يستمع للراديو ويقرأ الصحف الورقية، أنا لا أدري كيف دارت الأيام بي.. كيف تضاءلت أحلامي الكبيرة.. وأصبح كل ما أريده فقط هو الهدوء والراحة من كل شيء، وأنا لا أدري كيف تساقطت لوحاتي التي رسمتها للمستقبل.. وأصبحت طموحاتي قصيرة تبدأ مع شروق يومي وتنتهي مع الغروب، وأنا لا أدري ما الذي تغيّر.. أنا الذي كنت أنتظر الغد بشوق.. أم هي الأيام توقفت عن الصعود وأصبحت مكررّة، وأنا لا أدري متى تنتهي.. تغلق الأبواب وتطوي صفحات من تحب.. ثم تعود كل مرة إليهم تطرق أبوابهم بكل ضعف وخجل، وأنا لا أدري من أنا بالتحديد.. الشخص الهادئ الذي يحب العزلة والهدوء.. أم الشخص المنطلق بالحياة الذي يصنع الضحكات لمن حوله، وأنا لا أدري متى أتوقف.. لا أدري متى أعثر على من يغنيني عن العالم.. لا أدري متى أنسى كبسولات الحديث مع الغرباء، وأنا لا أدري كيف ألوّن حياتي من دون حبّ وأصدقاء.

back to top