حبر وورق

نشر في 11-02-2017
آخر تحديث 11-02-2017 | 00:02
No Image Caption
الأمريكية والأخرى

قتلتها. إيرانية من شيراز. كانت حلوة وكان اسمها نيروز. كنت قد قابلتها في مطعم المحارة في برج العرب. جلست وسط الضوء الأزرق فلكأنها في البحر والبحر فيها. أسماك القرش بعيونها المرعبة وأنيابها القاطعة كانت تسبح في جوف الموج الذي صدّه عنا حاجز الزجاج. حين دخلت المحارة قادني النادل صوب طاولتي، انتبهت لحضورها الطاغي، لجلستها الفاتنة، لذلك الهديل البعيد في عينيها. علقتني نظرتها بحبال من مسد فلمحت فيهما وميض نجم وضيء ثم سمعت منهما هديلاً بعيداً يتلوه نشيد. نشيد وثني عتيد. سمعت ايقاعات طبل كلّه أصداء. جيدها ناهض، ناصع صقيل، يحوطه عقد جميل حبّاته كبيرة حمر، على خصلة منها ثُبّتت فراشة ذهبية بكلّ الروعة والاعتناء وبفمها توقدّت جمرة شديدة الإغواء. شعرها فاحم طويل وفستانها أحمر يمور باللهب، ينوء بالوهج، يضجّ بالوجيب. كانت لها أهداب غزيرة طويلة أصابت القرش بالارتباك. نحيلة كانت، دقيقة الملامح، بضّة الجسم والأعضاء. لم تكن بالطويلة، وفي عينيها السوداوين الواسعتين سبحت حيرة جذابة، تبعثر أكثر من سؤال. مراكبـي غرقى، والقتل يتلاصف في موج عينيها مثل نداء الشوق. شعرها عطر ولحظة عانقتها كان خلداً عجيباً! طوقتني بذراعيها فاختلطت رائحة العرق والجسد في جيدها وأذنها برائحة شعرها الفاحم المسدل المليء بالظلمة، بالجسارة، بالأسرار. أغمضت عينيّ برهة فرأيت حصوناً وقلاعاً زرقاً وخضراً وحمراً. حينما فتحت جفنيّ سال منيّ دمع غزير فبلّ خصلتها ثم سال فغسل نحرها الوضاء. في خاتمة الأصيل الذي سبق ليلة الأساطير تلك، أصيل يوم من أصائل الصيف البعيدة التي ما تعرفت فيها بعد إلى مليسا ولا إلى الحشيش الفلبيني العظيم، غادرت حجرتي في الجميرا وأصداء الأذان تعلو من المنائر القريبة تهدهد الجنبات والأرجاء. المؤمنون والأتقياء هرعوا صوب المساجد يؤدون صلاة المغرب وأنا وحدي مضيت أتخبّط في الطرقات ممزّق الأوصال مسفوح الدماء. ليس لي في الدنيا من أحد، ليس لي من كلمة، ليس لي من عزاء.

بعد الغروب الصحراوي السريع توارت الشمس وسقطت المدينة في قبضة الشيطان. كانت ليلة من ليالي الصيف الخانقة، كانت الرطوبة جسماً يحس، جسماً تمسكه بيدك. كان النفس عسيراً فكأنما ملح الخليج تناثر يدخل الأنوف بدلاً من الأوكسجين. ثمة هواء ساكت معلّق وأنا وبجانبـي كلبـي الأسود مضمّخاً بعطر أنتروشن من أوسكار دو لا رونتا. حلّتي كاملة برباط عنقها ماركة هارودز، بقميصها ماركة بنْك الإنجليزية، بحذائها السويسري ماركة بالي وحزامي المنقوش بالنجمات. نعم كانت عليّ حلّتي السوداء لأنني كنت قد أعلنت الحداد، العرق المتصبّب منّي كان يشهد أن جسمي كلّه يبكي بل يسرف في البكاء.

في تلك العشية البعيدة حملت الأخبار مصرع ثلاثين شخصاً بحزام ناسف في بغداد؛ اختنقت من هول النبأ الذي تحول إلى وجبة يومية. لا أدري كم لبثت أذرع الشوارع ذات الإسفلت الأسود مثل قلب الشيطان، لكن تناهى إلى أذنيّ مرّة أخرى صوت الأذان يعلو في المنائر. كان المؤمنون يتأهبون هذه المرة لتأدية صلاة العشاء. وأنا أخذ منّي الحر، عصرتني الرطوبة واقتضاني الرهق. رهق الجسم محتمل لكن رهق الروح!

أشعلت سيجارة حشيش من الصنف المصري، وقفت حتى إذا ما أتيت عليها مضيت. كنت أشعر بتعب مدمّر ولم أكن أملأ رئتيّ إلا بالملح الأجاج. ما من تاكسي، فسائقو التاكسيات يناصبونني العداء. مشيت أشعر بحريق ملتهب في راحتي قدميّ، بألم مبرح في عظمتي ساقيّ. بعد جهد ومشّقة، بعد طول انتظار وأنا واقف أتلفت كما يتلفّت الضبّ في الصحراء وقفت عربة تاكسي! لم أصدّق! فتحت بابها الخلفي وتركته مفتوحا ورائي:

- سير! أغلق الباب.

- انتظر حتى يدخل كلبـي الأسود.

- سير! أنا لا أرى كلباً! أرجوك أغلق الباب.

ساد صمت.

- سير! لا يمكنني أن انطلق إذا لم تغلق الباب.

وقفت متردداً. أغلقت الباب وارتميت على المقعد يلفحني المكيّف ببارد الهواء. غصت في المقعد البيجي البلاستيكي، غاصت الروح منّي في حفرة مليئة بالهمّ، بالدماء. انتبهت إلى صوت السائق الهندي يسألني ويلحف في السؤال:

- سير! إلى أين؟ أين تريد الذهاب؟

- ....

- سير! إنني أسألك لأكثر من خمس دقائق وأنت لا ترد!

- ....

- سير!

- .....

- هل تسمعني؟ إلى أين يمكنني أن آخذك سير؟

تنهدت ثم أجبته:

- خذني إلى برج العرب.

كان المذياع مشعلاً وكان يقول: وفي بيشاور أيضاً قضى تسعة عشر بعد أن فجر مجهول نفسه بحزام ناسف.

- أغلق المذياع. أغلق المذياع...

- حاضر سير! حاضر!

كنت مرهقاً غاية الإرهاق، رهقاً روحياً عميقاً ضارب الجذور. ما هذا القلق المؤلم الذي قد طرأ عليّ؟ هل حقيقة كان ثمة كلب أسود؟ ماذا حدث للعين؟ للإدراك؟ بل ماذا حدث للحياة؟ ماذا حدث للحاضر؟ ثم ما هي قصة هذا الحزام الناسف الذي يفجره مجهول على الدوام؟ كيف ضاع السلام؟ إلى أين ولّت وانزوت مئات الآمال؟ أمي وأختي حياة قُتِلتا بحزام ناسف! أبـي قُتِل؛ ما سر هذا القتل المستمر؟ ومن أين أتت كل هذه الأحزمة الناسفة؟ سرت من بعد أن تأكدت أنني قد ضللت كلبـي الأسود. مجدداً أشعلت سيجارة ومضيت أدخن في قلق.

- سير! التدخين ممنوع.

- سقْ يا رعاك الله لأنك لن تستطيع مجابهة هذا الصنف الفرعوني.

واحتد نقاش لكنه أتى على سيجارته في عناد. برهة وغرقت في زرقة بعيدة هي زرقة الذكريات في الدنيا الجديدة: أمريكا. جميلة هي أمريكا، كانت حلماً فكيف هي الآن؟ في اليوم الأول لزيارتي كنت أستنشق الهواء بشغف، أعبّه عبّاً! لكن بعد يوم المركب والتمثال، بعد المحكمة، بقيت محطم الروح أجوب أنحاء نيويورك، نيويورك التي أحبّها أبـي. في حدائق السنترال بارك، والعشب أخضر والأشجار مورقة، الزهور متفتّحة بألف لون ولون والنسيم عليل يحمل الشذى، رقدت مسنداً رأسي إلى راحتيّ، خيّل إليّ أنني أرى أبـي يجوب الحديقة بصمته المهيب، بزيّه الأنيق! طافت الذكرى وانعقدت في الرأس ورطات عصيبة، تفجّرت في القلب ينابيع من الحزن من الألم والفقدان والفجيعة، ترنّح القلب والفكر وارتبكت في عروقي الدماء! ثم بغتة رأيت أختي حياة تجري تنطط فوق العشب، تلهو وتمرح! تشكلت بطيفها هناك في دخان الذاكرة حيث النخل والريحان والرمان! حيث الورد الجوري، الزرزور والهزار والكنار! رأيتها وهي بنت سبع سنين تجلس على كرسيّها الأثير! الكرسي المعدني الصغير المنسوج بالبلاستيك الأزرق ثم تذكرت المنظر الرهيب للعبوة الناسفة التي فعلت بوجهها وجسمها تشوهاً لم يكن ليدركه الخيال! وأنا في حال ليست كحال جاءني أبو الطيب، جلس بقربـي فوق عشب السنترال بارك يعزيني بشعره، وأنا أبكي وأسرف في البكاء. صوته الهادئ النبرات حوّلني إلى نبع يضج بالحنين، يضج بالفقدان، بالدموع، بالحسرة والتحسّر، بالنشيج، بالأسى. صوته دوماً يظلّ يسكن الروح والخاطر!

في تلك الأثناء كانت حياة تظهر بوجهها الطفولي البريء طوراً وتارةً تطل مشوّهة يلفها الموات. بقيت أبكي وأبو الطيب قربـي يرفدني بشعره مزيداً من الحزن، مزيداً من البكاء.

نهض أبو الطيب، تهادى يسير ببطء يغادر؛ بدا غريباً، تائهاً في حدائق السنترال بارك! صحت فيه أناديه وأسأله: أنحن في شعب بوّان جديد يا أبا الطيب؟ التفت. مرّ ولم يجبني، لكن قدميه خلّفتا آثاراً عميقة على العشب المبتلّ، على الدروب الّلينة المتعرّجة في السنترال بارك! أبـي كان يقول لي: إن أبا الطيب في تمرده يمثلّ النزعة الفردية العظيمة في الإنسان العربـي، هذا ما يعجبني فيه، عدا ذلك كان رجلاً يتكسّب بالمديح، وهذا لا أحبّه. أبـي لم يفهم أن أبا الطيب لم يكن يمدح إلا نفسه، لم يفهم أنّه كان شاعراً ضخماً عظيماً. ليس من أحد يُعينني في هذه الفوضى غير صوته! إنّي أختلف معك يا أبـي، وأنت على كلّ حال قُتلت في بغداد، هناك حيث جدّك وترابك، حيث عملك وأحلامك، حيث دجلة الذي يحفظ التاريخ. لكن كيف ستكون نهايتي أنا؟ وأين؟ ومرّ بـي عن قرب فوج من السيّاح الآسيويين والأفارقة يحجّون إلى الحقل العظيم. تذكّرت كلمات بعثها لي أبـي من العاصمة داكار حيث كان يشارك في أحد المؤتمرات، قال في الرسالة: “الحضارة الغربية القديمة الوحيدة هي الحضارة اليونانية الرومانية، وقد كانت على مرمى حجر منا. تذكر أن معظم حضارات العالم القديم نشأت في ما يُعرف اليوم بالعالم الثالث! آشوريا، بابل، سومر، الهند، فارس، الصين، مصر وحضارة أفريقيا جنوب الصحراء. الإنسان عرف صهر الحديد لأوّل مرّة في حضارة مروي الأفريقية. لا تنسَ مالي وأكسوم. في داكار التقيت اليوم بتلميذ بارز للمؤرّخ السنغالي الشيخ أنتي ديوب. لديوب آراء جريئة في التاريخ. جلسات المؤتمر منحتني الكثير من الأمل. بات الجميع مدرك لأهمية الديمقراطية وارتباطها الوثيق بحقوق الإنسان. بات الجميع مدرك بأنه قد آن الأوان لكي نندرج في سلك الحضارة، حضارة الإنسان. آن الأوان لكي نشرع بالمشاركة في صياغة حضارة عالمية. إذا لم نفعل رغبةً وقدرةً واقتداراً فسيأتي اليوم الذي ترفع فيه حدود الدولة القومية وتصبح السيادة الوطنية القائمة على النظريات التي نشأت في القرون الماضية، هي أيضاً، شيئاً من الماضي. في الأفق تلوح قرون جديدة تشابه انتشار الحضارة الرومانية القديمة التي انتشرت بالحضور الفيزيائي الفعلي في الأصقاع والقارات. كذلك فعلت الحضارة العربية الإسلامية التي وصلت أفريقيا والهند والسند والصين وعبرت الأوقيانوس لأندلس بعيد ثم مضت قدماً حتى مدينة بواتييه الحالية في فرنسا. العرب والمسلمون لم يحكموا بالإنابة لكنهم وفّروا بوجودهم الفيزيائي الفعلي تعاليم راقيةً وعدلاً وإخاءً، خلقوا مدنية وخلقوا حضارة ربطت ما بين الحضارة الهيلينية اليونانية الرومانية. حضارة الغرب الفتية، الحضارة الغربية الراهنة، هي ودونما ريب آخر الحضارات الإقليمية، وستكون أكبرها وأعظمها لأنها تحمل سمات العالمية شأنها شأن الرومانية والعربية الإسلامية، ولأن العالم سيحطّم الحدود...”.

وأيقظني صوت السائق الهندي:

- سير! لقد وصلنا!

- ....

- ألا تسمعني؟ ألا تود النزول؟ لقد وصلنا!

غيمة أربطها بخيط

التوأم

انتابني خوف شديد عندما رأيته يخرج من باب البيت الذي يعجّ بالرجال والنساء من دون أن ينتبه له أحد. كان هو الفتى الميت الراقد في السرير ومن حوله نسوة يندبنه، أمّه وشقيقاته وأخريات من قريباته ونسوة الحيّ... أمّا أبوه وشقيقاه وسائر الأقارب فكانوا يتقبّلون التعازي في منزل الجيران المقابل لمنزل أسرته.

تردّدت كثيراً قبل أن أناديـه، ولمّا التفت إليّ ابتسم. قلت له: ألم تمت؟ إنّك ترقد في السرير والنسوة من حولك يندبنك؟ قال ضاحكاً: لست أنا مَن مات، بل شقيقي التوأم. قلت له: لكنّك فتى وحيد ولا توأم لك! قال: هكذا يظنّون... وابتسم ثمّ أكمل طريقه ذاهباً إلى الباحة التي يتجمّع فيها صبية الحيّ ليلعب. كانت النسوة يندبنه، ثم أتى الرجال لوداعه ثمّ وُضع في تابوت وحُمل على الراحات في الطريق إلى الكنيسة، ثم إلى مقبرة البلدة. أمّا أكثر ما حيّرني فهو قوله لي: اذهب وصلّ عن نفسي.

كان الفتى الـذي خرج من البيت يرتدي ثيابه العادية التي يرتديها كل يوم، أمّا الميت الذي يرقد في السرير فقد ألبسوه بذلة كي يبدو جميلاً. سرّحوا شعره الطويل أيضاً وأناموه على ظهره.

الكتاب المجهول

في المكتبة العامّة التي أقصدها دوماً اخترت كتاباً لم أبصر له عنواناً، ثمّ جلست إلى الطاولة التي اعتدت الجلوس إليها في إحدى زوايا البهو الواسع، الذي يسمّيه حارس المكتبة، العجوز، بهو القراءة. ما إن فتحت الكتاب حتى فوجئت بهوامش مدوّنة على جانب الصفحات بالقلم الرصاص. عرفت للحين أنّ الجمل هي لي. إنه خطّي، بل هي أفكاري التي أحفظها غيباً. لكنّ هذا الكتاب لم أقرأه من قبل: لم أفتحه يوماً. رحت أقرأ الجمل المكتوبة لأتيقّن من أنّني أنا الذي كتبها. إنّها أفكاري. حتى الأحرف مكتوبة مثلما أكتبها أنا. ومع أنّ الجمل كانت غامضة قليلاً حتى إنني لم أتمكّن من فهمها جيداً، بتّ على يقين من أنّني أنا من كتبها. رحت أقلّب الصفحات الصفراء التي تذكّرت رائحتها العطنة، قارئاً ما كتبت على الهامش بالقلم الرصاص, القلم نفسه على ما أظن الذي كنت أحمله بين أصابعي. وكلّما قلبت صفحة اكتشفت جملاً أخرى تتواصل كأنّها جملة واحدة. هذا الكتاب لم أقرأه من قبل. إنني متيقّن من أنّني لم أفتحه يوماً. ولمّا اشتدّ اضطرابي، رحت أكتب المزيد من الجمل على هامش الصفحات الأخرى، بالقلم الرصاص نفسه. لكنّني لم أعلم ماذا كنت أكتب ولا إن كنت أنا مَن يكتب، بالقلم الرصاص، القلم نفسه الذي بين أصابعي.

«من أجل انتحار سعيد»

كنا نمشي في شارع غريب لا نعرف اسمه، عندما لفتنا ازدحام أمام أحد المحالّ. كان جمع من بشر ينتظرون أمام باب هذا المحلّ، نافدي الصبر، يتململون ويتأفّفون، لا يعلم الواحد منهم متى تسنح له الفرصة ليدخل. كانت واجهة المحلّ تشبه سائر الواجهات في الشارع، معدن فضّي لامع وزجاج وأضواء نيون في عزّ النهار... عندما اقتربنا من المحلّ وحدّقنا إلى واجهته الكبيرة فوجئنا باسمه على لافتة تعلو الواجهة، كان مكتوباً بلغة لا نجيدها. سألنا أحد المنتظرين هناك عن اسم المحلّ فقال مختصراً: «من أجل انتحار سعيد». وأضاف: إنها فرصة مهمّة للتبضع بأسعار مخفوضة. وقفنا في الجمع، عسانا نتمكّن من دخول المحلّ. فضولاً وليس بغية الشراء، فالواجهة اللامعة تخفي وراءها أشياء لم نصادفها يوماً... عندما أتيح لنا أن ندخل رحنا نجول في الداخل يرافقنا أحد العاملين في المحلّ. وراح يشرح لنا: إذا أردتم أن تنتحروا، فنحن نوفر لكم أشدّ وسائل الانتحار راحةً وهدوءاً.

وشرع يستعرض أمامنا أدوات الانتحار وطرائقه: مسدّس يطلق إبرة تخترق الجسد من دون ألم وسرعان ما تودي بالإنسان، لما تحوي من سمّ قاتل، كمامة يضعها المنتحر على أنفه ويتنشّق رائحتها العطرة فيسقط أرضاً للفور، بشعور لذيذ يشبه الخدر، حبّات شوكولا يتناول المرء منها واحدة فيشعر بدوار خفيف ويسقط، كبسولات تحتوي على مشروب وردي اللون والطعم له فعل الكحول... أمّا أغرب ما قدّم لنا فهو آلة صغيرة تشبه الهاتف الخلوي، تبثّ، في كبسة زرّ، شعاعاً إلكترونياً يفجّر الدماغ من دون نقطة دم فيقع المرء صريعاً...

ومن وسائل الانتحار سيكارة من بلاستيك يمجّها المرء بلذة فيختنق بسهولة بلا حشرجة. ثم قدّم لنا أدوات أخرى غريبة... وقال: واجبنا أن نخدم المنتحرين إنسانياً. على المنتحر ألاً يخاف ويتألّم، عليه أن يقضي بسرعة خاطفة، فلا يبقى لديه ولو دقيقة ليفكر بما يفعل. يغمض عينيه هانئاً لا يبصر أحـداً من حوله ولا يحتاج إلى أحد، ويمكنه أن ينتحر بالسرّ، صامتاً في غرفته، في حديقة، على شاطئ البحر... وختم جولته قائلاً: أنتم تختارون ما تشاؤون، والآن يمكنكم أن تفيدوا من فرصة خفض الأسعار. أسرعوا قبل أن تنفد بضاعتنا.

مدينة الأرق

رفع الرجل العجوز يده وقال لي: عندما تقترب من مدخل هذه المدينة، إيّاك أن تدخلها. هزّ يده ثلاث مرّات وهو يدلّني إليها من المرتفع الذي كنّا عليه. عندما قال لي ذلك، قلت لنفسي إنّ عليّ أن أقصد هذه المدينة لأعلم لماذا يحرّمها عليّ. واصلت المشي نزولاً حتّى وصلت إلى مدخل المدينة. على المدخل ارتفع لوح كتب عليه: ممنوع دخول الغرباء. لم أبالِ بما كتب على اللوح ودخلت. كان الليل بدأ يرخي خيوطه، الشوارع مضاءة، الناس كعادتهم في كلّ مدينة، يمشون على الأرصفة ويتنقّلون في عربات تجرّها خيول. دخلت حانة لأستريح قليلاً من عناء المشي، وما إن أزحت كرسيا لأجلس عليه، حتّى رمقني النادل الخمسيني بنظرة غريبة، وكأنّه يعاتبني على دخولي الحانة. لكنّه ما لبث أن اقترب منّي سائلاً إيّاي ماذا أشرب. لم يكن عجوزاً لكن منظره لم يكن أليفاً: عيناه شبه بيضاوين، شعره يكاد يكون أبيض كلّه. يداه ترتجفان، ظهره شبه محنيّ، ينقل نظراته مثل رجل مضطرب، يمشي مثقلاً وكأن على كتفيه حملاً ينوء به... أتى بالكأس، وجلس إلى طاولتي من دون أن يستأذنني. ثمّ راح يحدّثني بصوت مجهد، سألني: أنت غريب عن مدينتنا، أليس كذلك؟ إنّني غريب، بل عابر سبيل، إن شئت، أجبته. وسألته: ما اسم هذه المدينة التي لم أجد عند مدخلها إشارة تحمل اسمها؟ قال لي: إنها مدينة الأرق، هذا اسمها الآن، كان لها في السابق اسم آخر، لكنّني لا أذكره. فوجئت بهذا الاسم ونظرت إلى النادل مستغرباً، فابتسم وقال: هكذا أمسى اسمها بعدما حلّت حمّى الأرق بأهلها.

back to top