حبر وورق

نشر في 07-01-2017
آخر تحديث 07-01-2017 | 00:02
No Image Caption
كيمياء الخيبة

25 ديسمبر / كانون الأول

في مثل هذا اليوم، ولد العالم إسحاق نيوتن، والشاعر بدر شاكر السياب، والرئيس محمد أنور السادات.. وولدت أنا، خولة.

لا أدري هل وضعني قدري عبثاً مع هؤلاء العظماء، أم كنت مشروع امرأة عظيمة دهسها القدر؟ ما أدركه الآن أن الشعيرات البيضاء بدأت تغزو رأسي بتسارع مخيف، أشعر بها تضحك وهي تشاغبني، وكأنها تُخرج لي لسانها، وأنا أحاول تخبئتها بين طيات شعري، ثم تقفز بمشاكسة.

هذا اليوم الديسمبري هو يوم ميلادي، وللمرة الأولى أجدني بلا حماسة للاحتفال بذكراي السنوية، لن ألوم زوجي منصور إن نسي هدية هذا اليوم، ولن أبحث في غرفتيّ بنتيّ فاتن وليلى عن مفاجأة منتظرة.

فكل عام أصطنع الدهشة وكأني لم أتلصص لأرى تحضيراتهما المسبقة لمفاجأتي، لكن هذه السنة سأصمت، كل شيء داخلي يقول (آوشش)، فلا متعة في الاحتفاء بامرأة دخلت السابعة والأربعين من عمرها، فهل تحتفل بقرب الخمسين أم بسن اليأس؟ هراء.

في السنوات الأخيرة أصبح دوري تصنُّع البهجة، أكذب وأُجمل كذباتي، أتذكر تساؤل الفيلسوف جاك دريدا في كتابه «تاريخ الكذب»: هل يجب اعتبار الابتسامات المتكلفة من باب حُسن اللياقة أو النظرات وحركات اليد التي تبقى مضمرة، على أنها مجرد أكاذيب؟

وحتى أنفض أي فكرة تجتاحني اليوم، رتبت هندامي على عجل، وخرجت من غرفتي لأنادي العاملة المنزلية روزلين كي تحضر كوب الحليب الساخن الذي اعتدت احتساءه صباحا وأنا أتمدد على الأريكة.

طعم الحليب بدا غريبا، كل شيء غير المعتاد، مهما حاولت فرض الطابع الاعتيادي على هذا اليوم، أجده يرفض ذلك، وكأني استنشق أوكسجينا مختلفا، أشعر أن بيتي انكمش ليخنقني، وكأن الشياطين تهديني طاقة سلبية بحجم الكون، يا لها من هدية بائسة في يوم ميلادي.

أنا التي من المفترض أن أكون مبتهجة في هذا اليوم، أركل هذه «الافتراضية» وأرميها وراء ظهري، وأحاول تفحص ملامح وجهي لأطمئن بأن جمالي لم يندثر بعد.

أقف أمام المرآة، لأرى أرطال الشحوم والدهون تحيط ببطني، أعصرها بيدي وأهزها بأسى، أشعر بالاشمئزاز من هذا الجسد الثقيل الذي أصبح يلازمني، لم أكن أدرك أن معاناتي مع الوزن المفرط وصلت إلى هذا الحد الكارثي، ظللتُ لسنوات أخبئ جسدي في دائرة الملابس الفضفاضة.

للتو اكتشفت أن ملامح خصري اختفت، وفخذيّ تعلوهما خريطة من الخطوط البيضاء المتشابكة، كنت أُضيّع وقتي في طهي الطعام وابتلاع الأطعمة المشبعة بالدهون؛ بشراهة مفرطة.

تجاوزت السابعة والأربعين، دون أن أقود دراجة نارية، أو أتزلج على الجليد.. لم أجرب صبغ شعري باللون الأشقر ولم أربط الوشاح على خصري لأرقص بدلال.. أضعت سنوات شبابـي سجينة الوقار والحياء والعيب، كنت أحاول أن أكون جادة ومثالية بمبالغة تثير اشمئزازي الآن.

تنبهت لذلك بعد انقطاع الطمث قبل أشهر.. لم أخبر أحداً بسري هذا، هم لا يعلمون أن هذا العام مختلف داخلي لأن رحمي جف وخصوبتي رحلت.. خولة ليست كما كانت في الأعوام الماضية..

حاولت الهرب من هذه الأفكار السوداوية، كنت أتجوّل في المنزل مشوّشة الأفكار، حتى أطل منصور برأسه (صباح الخير)، قالها مبتسماً، وأنا تعجبت من استيقاظه باكراً في يوم إجازة.. رددت (صباح النور)، ولمحت الساعة لأجدها لم تتجاوز الثامنة والنصف.

دعاني منصور للجلوس أمام المدفأة، طلبت من روزالين أن تُسرع في إعداد الإفطار ثم توشحت ردائي الكشميري الذي اشتريته من محل ليبرتي في لندن قبل سنوات.

جلست أمام منصور الذي كان يرتشف الشاي على مهل وهو يتصفح الجريدة، وأنا أتأمل صلعته اللامعة وبطنه المكدس بالدهون، لست متأكدة هل كان الرفيق المناسب لرحلة عمري؟

أنا التي طالما حلمت برجل يلقي عليّ تحية الصباح بتودد قبل ذهابه للعمل وليس فقط في أيام الإجازة، رجل يشاركني مشاهدة الأفلام تحت لحاف دافئ ووسط إنارة خافتة..

رجل يلاعبني ويرمي عليّ مخدات السرير مستمتعا بضحكات غنجي ودلالي، مستعد لمفاجأتي بباقة ورد أو قنينة عطر، لا ينتقد طبخي أو تسريحة شعري.. يجري ورائي عندما أركض إلى غرفتي وأنا حزينة ليجلس معي فوق السرير ويهدئني ويمسح دموعي بحنان.

لم يكن منصور أي واحد من هؤلاء، لكني عشت معه شعور الاكتفاء، ظللت نحو عشرين عاماً مكتفية بقليله، ومنسجمة مع رتابته وصمته الدائم.. لا أذكر متى آخر مرة قال لي (أحبك)، ربما قبل ميلاد ابنتي ليلى، ياه كم هو شحيح بعواطفه!..

صحيح أني شعرت معه بالأمان، لكن هذا لا يكفي، أرى حياتي مع منصور جافة، بلا روح، نتاج مجتمع يستخف بالاحتياج العاطفي للمرأة ويعتبر المزاح مع الزوجة خدشا للرجولة، ويوصم الرجل الذي يدلل زوجته بـ «الخروف».. مجتمع يستنكر إسعاد المرأة، ويمنح الزوجة فيه وصفة «الصبر» على كل شيء، كل شيء.

***

خلال العشر سنوات الأولى من زواجي كنت أتقمص دور رجل الإطفاء، أحاول إخماد حرائق منصور وانفعالاته، معتقدة أني هنا مثال للزوجة الحكيمة التي تُضخم المجالس النسوية من شأنها، في تحايل مضحك يُلبس الانهزامية ثوب الصبر والاتزان.

صحيح أن طغيان منصور خبت في السنوات العشر الثانية، وتحديداً بعد أن دخل بحر الخمسينات، أصبح يميل للهدوء والصمت أكثر، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أني ضيعت زهرة شبابـي مع رجل لم يُقدر أنوثتي بالشكل الكافي.

لا أدري كيف خنعت لرغبات منصور الدائمة في التحكم بشؤون حياتي، كان يشدد علي كثيرا، ويفرض رأيه في ملابسي، يحتج على زيارة صديقاتي، يعتبر خروج المرأة إلى المقهى برفقة صويحباتها وجهاً آخر للمجون والعهر.. واليوم أجده شديد المرونة مع ابنتيه.. يسمح لفاتن بالذهاب في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأميركية ويتيح لليلى كل وسائل الترفيه والتنقل.

لحظة، لحظة.. أنا لا أغار منهما، فهما قطعة مني، لكني أغبطهما على الحرية التي تعيشانها، وأتحسر على التعدي السافر الذي مارسه منصور تجاه شبابـي وحرية قراري، فبسببه تركت وظيفتي كمعلمة رياضيات، لأسخر كل طاقتي له ولابنتيه.. نعم منصور سرق جزءاً من حياتي، أهم مرحلة في حياتي أضاعها تحت مظلة أنانيته الذكورية.

وكأن حديثي الصامت يصل إلى منصور، أجده يرفع عينيه عن الجريدة ليرمقني لوهلة، ثم يعود لقراءة بقية الأخبار، وأنا أحتسي ما تبقى من كوب الحليب..

وحتى أكون منصفة، منصور صورة لرجال أفرزهم مجتمع ذكوري قاسٍ، يعطي الزوج كل الصلاحيات للتحكم بمصير زوجته، حتى وإن كانت قرارات هذا الزوج غير ناضجة وعدوانية في بعض الأحيان، مجتمع يسبغ نعت «الزوجة المثالية» على الخنوع والاستسلام.

حظي العاثر لم يختلف عن حظ السواد الأعظم من الزوجات المكلومات، اللاتي يتبادلن حسابات الطبخ عبر مواقع التواصل الاجتماعي لملء كروش أزواجهن، ويتلقفن النصائح الحمراء لإثارة الزوج الذي يعاني ضعف حيويته الجنسية.

امرأة مهزومة تتصيد الفرص للتسجيل في الدورات الزوجية بحثا عن حظوة الحصول على قلب زوجها الذي يشغل نفسه بالأحاديث السامجة مع أصحابه ويستهلك وقته بمتابعة نشرات الأخبار ومباريات كرة القدم.

وأنا أغوص في أعماق ما هو أسوأ، أجد منصوراً يعود لتلك الابتسامة الصفراء، ويسألني (أين ليلى؟)، طلبت من روزالين التأكد إن كانت ليلى قد استيقظت أم لا.

ليلى ابنتي الثانية التي أكملت للتو عامها السابع عشر، الطفلة المدللة لمنصور، هي حبيبته وأنيسته وكل حياته، وأعتقد أنه لم يتغير إلا بعد أن دخلت ليلى عامها العاشر وأصبحت طفلة متطلبة، لا يرد عليها إلا بعبارات السمع والطاعة.. ثم ازداد تعلق منصور بليلى أكثر عندما سافرت ابنتي الكبرى فاتن في بعثة دراسية قبل نحو عام، تلك البعثة التي رفضتها بشدة وأصر منصور عليها كي يرى ابنته مهندسة ذات شأن كبير في المجتمع.. ألم أقل أن هؤلاء الرجال أنانيون ومتلونون كذلك؟

دقائق قليلة، وتدخل ليلى وهي تجر ساقيها جراً من أثر النعاس، تقبل رأس منصور ثم رأسي، وتجلس بتثاقل وهي تقول (صباح الخير)، لتغوص هي الأخرى في السكون وهي تُقلب أزرار هاتفها النقال، وتضع ساقاً فوق الأخرى في بنطال يعج بالرسوم الكارتونية الساخرة.. تبتسم تارة وتتجهم تارة وتضحك بصوت مكتوم تارة أخرى.

قطع منصور صمتنا، سائلا ليلى عن بعض تطبيقات الهاتف النقال، وهي ترد بحماسة مخلوطة بالعديد من المصطلحات الإنكليزية، وهو يقهقه عالياً في كل مرة يجد ابنته لا تتقن المعنى العربـي لإحدى الكلمات، فلقد كان حريصا على تعليم فاتن وليلى اللغة الإنكليزية قبل العربية، وهو ما اعترضت أنا عليه ذاك الحين، لكنه أصر بحجة متطلبات العصر الجديد..

والآن أجد الفتاتين لا تدركان الفرق بين الظاء والضاد، وتتورطان عند مصادفة الهمزة، وتفشلان في صياغة جملة خالية من الأخطاء الإملائية أو النحوية.

أنا التي أسميت ابنتيّ فاتناً وليلى، تيمناً بفاتن حمامة وليلى مراد، كنت أتخيلهما سيدتين وديعتين تقدران الرومانسية، تتقنان تنسيق الأزهار، وتتحدثان ببطء ورقة، تحترمان كلاسيكيات الأدب الروائي والأعمال الشعرية العظيمة، تستمتعان بسماع الموسيقى الطربية، خزانة ملابسهما تعج بالفساتين الزاهية، لا تتحدثان أثناء مضغ الطعام، لا تضحكان بصوت مجلجل كالصبيان، تتخصصان في دراسة العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية أو الطب.. لأجد فاتناً تدرس هندسة الطيران وليلى تخطط لدراسة القانون الجنائي.

أصل العالم

لقد قتلت رجلاً، غادر المكان بسرعة.

يقف على مفترق الطرق، خلفه البلدة القديمة تميل شمسها نحو الغرب، والطريق الجنوبيّ ما زال خالياً من المارَّة.

هيّا بسرعة، ماذا تنتظر؟ اهرب قبل أن يمرّ أحدهم ويرى الجريمة، وعندها إن لم تفقد حياتك فستفقد حرّيتك إلى الأبد.

لكن ماذا لو أنّ الرجل لم يمت بعد، كيف أتركه يموت هنا وحيداً، ربّما استطاع الأطباء إنقاذه. لا بدّ أنك فقدت عقلك. حسناً، تريد أن تحمله إلى المشفى، فإنْ مات هناك سيتّهمونك بالجريمة التي ارتكبتها، وإن عاد الرجل حيّاً سيتّهمك هو بمحاولة قتله. لكنْ كيف سأتركهُ هنا وحيداً غارقاً في دمه. سأخبرهم بالحقيقة يا سيّدي القاضي. أنا لم أقتلهُ، هو من ظهر لي فجأة وأنا متّجه إلى السوق، لأصلح حذائي القديم قبل الذهاب إلى عملي. طلب منّي نقوداً، فأخبرته أنّي لا أحمل نقوداً، وأني فقير الحال مثله بل ربّما أكثر. هاجمني وحاول أن يسلبني ما أملك، لا شكَّ أنّه أراد سرقة معطفي الجديد. يا سيدي القاضي، أنا لم أؤذ أحداً في حياتي كلّها، لم أسرق ولم أقتل. لم أخالف وصيّة واحدة من وصايا السماء. والسماء ليست تدري بوجودي. كنت يا سيدي القاضي دائماً أحيا على طرف الهاوية، أحيا فقط، لأنّني لم أمت بعد. لا تحاول استعطاف المحكمة بقصصك هذه. أنت قتلت رجلاً، ويجب أن يحكم عليك بالإعدام.

هيّا، قم وانفض الغبار عن ملابسك، واذهب إلى أيّ مكان. لم يرَ أحد الجريمة، فأنت لست القاتل، ولن يستطيع أحد أن يوقع بك ما لم توقع أنت بنفسك. تصرّف وكأنّ شيئاً لم يكن، تابع حياتك ببساطة. انسَ أنّك في هذا اليوم كنت متجهاً إلى سوق البلدة القديمة لتصلح حذاءك القديم. انسَ أنّك كنت هنا، انسَ أنّك رأيت وجه القتيل، هيّا غادر المكان.

نظر الرجل نظرة أخيرة في وجه القتيل، كان وجه القتيل عابساً كنائم يرى كابوساً. اقترب من القتيل قليلاً وانحنى على وجهه. لقد مات لا شكّ، قال الرجلُ ومضى.

ذهب يوسف نحو سوق البلدة القديمة. كان يلتفت للخلف كلّما سمع صوتاً. سيحلّ المساء قريباً ولن يكتشفوا الجثّة حتى صباح الغد، أو ربّما يمرّ أحدهم ويخبر الأمن. كانت الأفكار تتزاحم في رأسه بسرعة. أيهرب من البلدة ويتّجه شمالاً؟ تلك المدينة في الشمال لا يعرفه أحد فيها! هناك سيجد عملاً في مزارع البرتقال ويمضي بقيّة حياته. هل فقدت عقلك؟ تريد أن تهرب ولا دليل ضدّك. بل إنّ هروبك سيكون الدليل الذي تقدّمه للسلطات حتى تقبض عليك، سيربط المحقّقون ببن هربك والجريمة. هذه بلدةٌ صغيرة لا يقتل فيها رجل كلّ يوم. ستهرب. وفي الصباح يكتشفون الجثّة، ويكتشفون غيابك عن عملك وعن منزلك وعن البلدة، ستقدّم لهم الدليل أنّك أنت القاتل.

كان السوق مزدحماً. باعة في كلّ مكان يصرخون على بضاعتهم، ونساء ورجال يساومون ليحصلوا على السعر الأقلّ.

البلدة في الظهيرة تبدو وكأنّها في يوم العيد، الأطفال يتراكضون ويسرقون بعض الفاكهة، فيعلو صوت الباعة يشتمون السارقين الصغار. يقترب يوسف من باعة اللحم الذين صفّوا رؤوس الذبائح على طاولات فوق الرصيف، وعلى إحدى الطاولات وضع رأس عجل، كان يبدو أنه قد ذبح هذا الصباح. خيطٌ من الدم كان يسيل من الجزء المتبقّي من الرقبة المقطوعة ويصل حافّة الطاولة، ثم يقطر على الأرض الترابيّة التي شكّل الدمُ فيها مع التراب بركة صغيرة لزجة. لم يستطع يوسف أن يشيح ببصره عن الرأس، كان يرى أنّ الذباب يجتمعُ تارة فوق بركة الدم وتارة فوق شفتي العجل. وجه العجل كان عابساً كوجه الرجل القتيل، والفارق الوحيد بينهما هو هذا العري الكامل لرأس العجل عن باقى جسده. السوق يموج بالحركة، ويوسف متجمّد في مكانه كحجر. لم يعد يحسّ بالوقت، كم وقف ينظر في الرأس المقطوع! أهي لحظة أم ساعة أم نهار كامل؟

هل أعجبك الرأس يا سيّدي؟ إن شئت أن تشتري أعطيتك إيّاه بأفضل سعر في السوق. حديث البائع أعاد يوسف إلى الواقع وجعله ينتفض. بدأ يحسّ أنّ في قلبه خليّة نحل تنبض. ينظر تارة إلى صاحب المتجر وتارة إلى رأس العجل المدمّى الموضوع على الطاولة، ثم يستدير ويبدأ يركض. يوسف يختفي في الزحام، والبائع مذهول من تصرّفه الغريب. لا بدّ أنّ الرجل فقد عقله يقول البائع، ويعود إلى دكّانه يطرد الذباب عن الجثث المعلّقة.

يركض يوسف وقد أفلتت فردة حذائه، فيعود يلتقطُها ويعاود الركض. توقَّف. ماذا دهاك؟ لماذا تركضُ هكذا كحيوان أفلت من الأسر! سيعتقد الجمعُ أنَّك سرقت شيئاً، ويمسكون بك وسيدفعونك إلى الشرطة، وهناك ستعترف بجريمتك قبل أن يكتشفها أحد. لكن ألم ترَ الرأس المقطوع كيف كان عابساً، إنه يشبه، وجه الرجل الميّت. لقد انتهيت. لا أستطيع أن أجلو صورة القتيل عن خيالي. فما الحلّ إذاً؟ اذهبْ واعترف أنّك قاتل، ودعهم يُدخلونك السجن ثم ينفِّذون فيك حكم الإعدام. لست أخاف من الموت. صدّقني. وقد فكَّرت في هذا، لكني أخشى تلك المسافة الزمنية بين باب الزنزانة وحبل المشنقة. لطالما فكّرت بماذا يحسّ الإنسان وهو يدرك أنّه سيموت بعد دقائق. يحكى أنّه في الثورة الشيوعيّة في روسيا، عندما كان الحمر الشيوعيّون يأسرون أعداداً كبيرة من البيض (الملكيّين)، كانوا يحفرون قبراً كبيراً، ويدفعون الأسرى في جماعات تضمّ الواحدة منها عدداً كبيراً. يطلبون منهم المسير حتى حافة الحفرة الكبيرة، وهناك يطلقون النار عليهم، فيسقطون من تلقاء أنفسهم في قبرهم الكبير. لقد كان الشيوعيّون يفعلون هذا ليختصروا الوقت والجهد في حمل الجثث. تخيّل اختصار الوقت والسرعة حتى فى القتل. لكن في بعض الحالات، كان الأسرى بالمئات. أي أنَّ المجموعة الأخيرة من المسافرين في رحلة الموت كانت تنتظر دورها لساعات. تخيّل نفسك تنتظر دورك في الموت لساعات، وكلّما قُتل أمامك بعض من رفاقك، ترى الموت ولا تحصل عليه، بل تنتظرهُ. إنَّ هذا الإحساس في انتظار الموت يُعادل كلّ شيء عرفتهُ البشريّة. ثم هل يتألّم الإنسان كثيراً عند لحظة الموت شنقاً، هل يتألم بين سقوط جسده وذلك القطع القاتل في الحبل الشوكيّ وفي الحنجرة؟ لا تخشَ هذا، فإنَّ السلطات لا تخبر المحكومين بالإعدام بمواعيد التنفيذ حتى يعيشوا حياةً طبيعيّة حتى تلك اللحظة، لكن عندما يقتادونك في الفجر، تلك المسافة وأنت ذاهب إلى منصّة الإعدام ما أطولها وما أقصرها! ما أقبح البشريَّة! اقتل نفسك إذاً، وهكذا تتجنّب الكثير من الألم، بطلق ناريّ مثلاً وستموت في ثوانٍ. لكني لا أمتلك الشجاعة لأقتل نفسي، مع أنّ حياتي كلها لا تستحقّ أن تستمرّ. فلا حلّ لديك سوى أن تتحكّم بتصرّفاتك وقد غدوت أشبه بمجنون، تماسك وتصرّف بطبيعية، فلا خيار آخر أمامك.

back to top