فيلا في صقلية تعانق التاريخ وتستقبل زوارها بحرارة

نشر في 30-07-2016
آخر تحديث 30-07-2016 | 00:01
أقمتُ في إحدى غرف «دون أركانجيلو ألولمو» فشعرتُ بأنني أهيم بين جبل «إتنا» والبحر الأيوني. تشير تسمية «دون أركانجيلو ألولمو» أو «لولمو» إلى فيلا تقع بالقرب من بلدة «تاورمينا» على الساحل الشرقي من صقلية. تنتمي الفيلا إلى العائلة نفسها منذ أجيال (وتحديداً منذ القرن الثامن عشر). فتح المالكون الجدد منزلهم أمام الضيوف مقابل بدل مالي حين انضمّت «لولمو» إلى نادٍ حصري ضمن مجموعة The Thinking Traveller المؤلفة من 200 فيلا في صقلية و«بوليا» والجزر الأيونية وجزر «سبوراديس».
من الخارج، تبدو فيلا «لولمو» عادية لكن عند الوصول إلى مدخلها المقوّس، تفوح رائحة الياسمين، وتظهر مسارات حجرية مصمّمة بعناية، وتنتشر أشجار الصنوبر المثقلة بالبلوط إلى جانب نباتات الجهنمية المتسلقة، وتتغطى المروج بالورود وتحيط بحوض سباحة ساخن، وتتلألأ مساحة بحرية وراء بساتين الليمون: تجتمع هذه المظاهر كلها كي تسحر الزوار وتعانقهم وتعيدهم إلى تاريخ غابر وتُشعِرهم بدفء نادر. كان جناحي الشاسع يخلو من الهواتف والتلفزيون ومصادر الضجة المزعجة وكانت الأصوات الوحيدة التي أسمعها مهدّئة: صوت مغازلة الحمام، همسات النسيم الناعم عبر النوافذ الشبكية، قرع أجراس كنيسة بعيدة. حين استيقظتُ في أول يوم من الأيام الستة التي كنت سأمضيها هناك، سمعتُ صوتاً إيقاعياً لأن كارميلو البستاني كان يكنس الأرض ويزيل الفاكهة والأزهار التي وقعت على الأرض خلال الليل.

بشكل عام، يبقى الجو هادئاً في هذا المكان.

يمكن أن تسع فيلا «لولمو» 24 ضيفاً في المنزل الأصلي وفي مزرعة متحوّلة في الجوار. تبدو كل غرفة من الغرف الاثنتي عشرة مميزة ويسهل أن ترضي مختلف أذواق الناس. في أنحاء الفيلا، تكثر مظاهر الأناقة الهادئة والجمال الخالد: تزيّن الكتب الفنية واللوحات والرسوم والمفروشات القديمة القاعة الرئيسة وغرف الطعام، ويغطي سجاد «كليم» التقليدي أرضيات الحمم السوداء، وتُوزَّع كراسىٍ مريحة بالقرب من المواقد الكبرى.

يقدّم الموظفون الستة في فيلا «لولمو» الطعام للضيوف بسلاسة وتلقائية. على مائدة الفطور المحضّرة في الخارج تحت عريشة مزيّنة، تُوزَّع أكواب من القهوة الغنية والحليب المغليّ وكميات من أجبان الموزاريلا والريكوتا والألبان المنزلية وعصائر الحمضيات الطازجة والمعجنات الإيطالية والمخبوزات التي تخرج مباشرةً من المطبخ أو من مخبز البلدة المجاور. هل تريد تناول مثلجات بالفستق على الغداء؟ لا مشكلة! هل تريد معكرونة منزلية مع هليون أو سبانخ؟ ستحصل عليها! هل تفضّل طبقاً خفيفاً من الريزوتو مع الخرشوف والساردين المشوي الطازج على العشاء؟ ستجد ما تطلبه! تُقدَّم هذه الأطباق كلها بأسلوب مميز: تلمع قفازات بيضاء على ضوء الشموع وتُقدَّم الخدمة من اليسار نحو اليمين، ما يذكّرنا بأجواء مسلسل Downton Abbey لكن بأسلوب صقلية الخاص.

صحيح أن الكاتب الألماني غوته مدفون في مقبرة بروتستانتية في روما، لكنه عشق صقلية حين كان حياً وتجوّل في أنحاء البلد الذي سلب عقله طوال 40 يوماً في عام 1787. كتب غوته: «من دون صقلية، لا تطبع إيطاليا أي صورة في أعماق الروح. في هذا المكان نجد مفتاح كل شيء».

خلال رحلتي في صقلية سمعتُ هذا الكلام مرات عدة من سكان المدينة الفخورين، منهم فيديريكا موسكو التي وُلدت في «كاتانيا» وتدير عدداً من الفِلَل التابعة لمجموعةThe Thinking Traveller. يتعلق «مفتاح» آخر بحسب رأيها بجبل «إتنا» الذي تعشقه. كانت «الأم» إتنا تطلّ على منظر طبيعي قبل فترة طويلة من مطالبة اليونانيين ثم الرومان والعرب والنورمان والإسبان والفرنسيين بصقلية على مر تاريخ دام 2500 سنة. لا يزال جبل «إتنا» أبرز بركان ناشط في أوروبا وقد أنشأت حممه المتدفّقة أرضاً خصبة لكنه يستطيع تدمير كل شيء في أي فورة غضب.

على مسافة غير بعيدة عن جبل «إتنا»، زرنا فيلا أخرى ضمن مجموعةThe Thinking Traveller. ابتكر المصمم الداخلي لفيلا «دون فينيراندو» مجموعة ألوان وتركيبات سلسة وغنية عبر جمع أفخم أنواع الأقمشة والحرير والمفروشات والخزف في هذا المنزل المؤلف من خمس غرف نوم وخمسة حمّامات وحوض سباحة ضخم بموازاة البحر. تقع الفيلا في واحدة من أكبر المشاتل الزراعية في صقلية.

يصعب أن نتعمّق طبعاً بثقافة أي بلد خلال ستة أيام، حتى لو كنا على جزيرة بحجم صقلية. لكن يتّضح إرثها المعقد في كل مكان بدءاً من المعابد الإغريقية في «سيراكوزا»، مسقط رأس أرخميدس العظيم، مروراً بالسوق الخارجي المجاور في قلب جزيرة «سيراكوزا»، «أورتيغيا»، وخياراتها المدهشة من الفاكهة والخضار والأسماك والمعكرونة وزيوت الزيتون والعسل، وصولاً إلى تحفة «نوتو» من عصر الباروك (تدمّرت هذه المدينة بالكامل في زلزال عام 1693 وأعيد بناؤها من الصفر كموقع جديد)، على بُعد ستة أميال عن المركز القديم، «تاورمينا»، التي تُعتبر «لؤلؤة المتوسط» المعلّقة فوق سطح البحر (إنها بلدة سياحية قائمة منذ قرون ومعروفة بمبانيها التي تعود إلى القرون الوسطى وساحاتها الشاسعة وشوارعها الحلزونية)، ولا ننسى مدرجها اليوناني الروماني الذي بُني في القرن الثالث قبل الميلاد. عُرضت فيه مسرحيات لأمثال إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وأريستوفان ثم أعاد الرومان إنشاء مساحة مثالية لتسلية الحشود برياضات دموية وعروض السيرك.

كجزءٍ من مجموعةThinking Traveller ، رافقنا الخبير ماكس لاين إلى جميع تلك الأماكن وفي الجولات على الفِلَل الأخرى التي كانت متنوعة في تصميمها بقدر البلدات المجاورة. عبرنا بفيلا «الصخرة» البيضاء والمنعشة فشعرنا بأننا في رحلة بحرية تطلّ على قرية الصيد الصغيرة «سانتا ماريا لا سكالا»؛ ثم وصلنا إلى فيلا «لا ليمونيا» في «بوزويلو»: إنها مزرعة حجرية مرمّمة ومحاطة بحدائق فخمة وبساتين ليمون؛ ثم فيلا «سيغيلي» الواقعة في محمية «فنديكاري» الطبيعية التي تشمل أشجاراً قديمة عمرها ألف سنة وتطلّ على منخفضات ملحية حيث تنتشر طيور النحام؛ ثم فيلا «كازا فيرا» بالقرب من «نوتو»: إنه تصميم معاصر بُني على تلة تطل على مناظر تشكّل زاوية 360 درجة؛ وأخيراً وليس آخراً وصلنا إلى أحد الأماكن المفضلة لدي: فيلا «أورتينسيا» الجميلة التي أنشأها في «جياري» المهندس المعروف كريسبي من ميلان وفيها لمسات لا يمكن أن يبتكرها إلا فنان حقيقي.

في آخر يوم لي في «لولمو»، كنتُ أنا وفيديريكا موسكو نتناول الغداء معاً في الخارج فبدأت تمطر فجأةً أو هذا ما ظننتُه على الأقل. كانت تمطر رماداً... رماد من جبل «إتنا»! غطّت حبيبات رملية صغيرة كل شيء: غطاء الطاولة وشعري والأطباق الفضية. كان الشعور عجيباً وخطيراً في آن. أظن أن فيديريكا استمتعت بردة فعلي. بعد لحظات، جاء سالفو وهو يحمل صينية فضية بيد ومظلة مفتوحة باليد الأخرى. حاول بكل شجاعة أن يحمي تحليتنا من رماد «إتنا». لكن حين وضع آخر مثلجات أتناولها في صقلية أمامي، تطايرت أجزاء من رماد «إتنا» على سطحها. لكن بدل أن أزيلها، تذوّقتُها كلها وكأنني أردتُ بذلك أن أودّع «إتنا» بطريقة مميزة. كان مذاق الرماد رملياً مثل مذاق الشوكولا في مدينة «موديكا».

إنها نكهة حلوة ورملية في آن، تماماً مثل صقلية!

back to top