سعد البازعي: زيادة التحريم وضيق هامش المباح حوَّلا الدين إلى مجموعة «تابوهات»

نشر في 12-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 12-07-2015 | 00:01
No Image Caption
«التناقضات والضعف في ثقافتنا... سبب استمرار الإرهاب»
منذ كتابه الأول «ثقافة الصحراء»، مروراً بـ{المكون اليهودي في الحضارة الغربية» و{الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف»، و«قلق المعرفة»، و«مواجهات ثقافية»، و«جدل العولمة»، ومجموعة كتب تجاوز عددها العشرة، انتهاءً بالكتاب المعد للطبع «هموم العقل»؛ كوّن الباحث والناقد الأكاديمي د. سعد البازعي مشروعه الثقافي انطلاقًا من الأدب المقارن، مركزاً على الشؤون الثقافية، وعبر تجربته عضواً في مجلس الشورى السعودي حيث وظَّف دراساته لمناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والهموم الإنسانية، وأهمها حقوق الإنسان والتشدد الديني وطغيان الجماعات الإرهابية، وهو ما أشار إليه في حواره مع «الجريدة»، في حديث لم يخل من نقد التيارات التنويرية التي شهدتها النهضة العربية.

العالم يحترق، وجماعات الإرهاب تقوم من الرماد أكثر قوة ووحشية، ما الذي يحدث؟

الإرهاب عنف أعمى تغذيه أيديولوجيات ترى أنها تمثل الحقيقة ولا تقبل الحوار، وهذه أيديولوجيات لم تأت من الفضاء وإنما نبتت في تربتنا على اختلاف ألوانها: الديني والسياسي والاجتماعي. ومن هنا جاءت قدرتها على الاستمرار. لدينا من التناقضات والمسببات والضعف في المواجهة ما يجعل الإرهاب مستمراً.

أهي  مؤامرة ومكيدة تحقق نجاحاتها، حرب أهلية، فوضى طبيعية خلاقة؟

ليس الإرهاب مؤامرة، ولا هي حرب أهلية، وإنما هي واقع سياسي واقتصادي واجتماعي يؤدي إلى ردود فعل جنونية لن تعدم من يستغلها من دون شك من قوى خارجية، لكن جوهر المشكلة محلي.

لا بد من مهمة عاجلة لردع الجماعات المتطرفة، أهي مهمة صناع القرار من السياسيين أم المفكرين والباحثين أم هي مهمة المجتمع؟

رد الفعل ينبغي أن يأتي على المستويات  كافة، وواجبات التصدي متوزعة على كافة قوى المجتمع، لكن للحكومات والمجالس التشريعية نصيب أكبر بما تملك من مقدّرات ولديها من صلاحيات لا يملكها لا الأفراد ولا الجماعات.

كتبت باستفاضة في مفهوم «الاختلاف الثقافي» و{مقاربة الآخر» و{استقبال الآخر»، لكن ما العمل مع أيديولوجيات تلغي الآخر وتستهدفه في الإبادة؟

ما كتبته كان مسعى متواضعاً لتأكيد حضور الآخر وضرورة التفاعل معه وأن قدراً كبيراً من ذلك التفاعل متحقق فعلاً طوال التاريخ، فلا نهوض ولا حضارة من دون تفاعل منفتح وواعٍ مع الآخر. ومفهوما الانفتاح والوعي أساسيان لما أشير إليه، خصوصاً في كتاب «الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف». أما الأيديولوجيات التي تلغي الآخر فعليها أن تدرك أن الآخر حاضر في خطاباتها ومفاهيمها وأدوات عيشها اليومي وأن السبيل الأنجع ليس الإلغاء وإنما إدراك ما يجري والتعامل معه بوعي ورؤية إنسانية رحبة.

ما نهاية الصراع القائم منذ قرن ونصف على ضرورة الإصلاح في المجتمع التي تنطلق من «شرعية» التعامل في الشأن الديني؟

 حولنا الدين إلى مجموعة ضخمة من التابوهات بتوسيع متن المحرم وتضيق هامش المباح، في عملية تعكس الأساس وهو أن أصل الأشياء الإباحة. وفي تقديري أن غلبة الفقه على الفكر في الاجتهاد الإسلامي بشكل خاص أدَّت إلى هذا التضييق، بقدر ما أدَّت إلى الضحالة.

 الواقع يقول إننا لم نعد ننتج مفكرين إسلاميين بقدر ما ننتج فقهاء وعلماء عقيدة. الحديث المعروف عن رسول الله (ص) أنه قال لمؤبري النخل: {أنت أعلم بأمور دنياكم} حين اتضح أن رأيه لم يكن الأصوب في أمر من أمور الدنيا، ذلك الحديث ليس مما يتوسع فيه علماء الدين في منطقتنا من العالم وإنما يتوسعون في سد الذرائع والإكثار من التحوط. وفي ذلك، في ما أرى، مصدر المشكلة.

ماذا عن الارتباط الشرطي بين العلم وبين الفكر الغيبي على مستوى العالم العربي تحديداً؟ ومتى تبدأ حلقات البحث والحوار في الإصلاح المنطقي الإنساني الشمولي؟

القرآن أكثر الكتب السماوية دعوة إلى التفكر في العالم واكتشاف قوانينه، فهو معني بعالم الشهادة مثلما هو معني بعالم الغيب، لكن غلبة الجهل والتفسير الضيق للنصوص القرآنية مع تخير الأحاديث التي تبدو وكأنها تعزز وجهات النظر الضيقة وإن كانت ضعيفة أدَّى إلى ما نحن فيه من رفض للتفكر العلمي الذي يقع في قلب الرؤية الدينية للعالم. وليس من فك لذلك الارتباط إلا بانتشار الوعي وزيادة الانفتاح على العالم من دون تخل، بطبيعة الحال، عن المبادئ الأساسية للعقيدة. فالجهد الفكري الكبير الذي بذله فيلسوف إسلامي مثل ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة لم يعد يبذل ما يشبهه أو ما في مستواه للتوفيق بن العلوم الحديثة والشريعة (أي أنني لا أقصد ما ينتشر حالياً من ربط كل مكتشف أو مخترع بالقرآن).

أين الخطأ في نظرك الذي يفسر عجزنا كعرب في التعامل مع التطور المتنامي بسرعة شديدة في التطور العلمي وفهم «قصة الحضارة» للعالم: في اللغة العربية، في التلقي، أم في بنية المجتمع الفكرية؟

اللغة مخزن لثقافة المجتمع لكنها لا تحول دون الخروج على تلك الثقافة، وفي تاريخنا القديم والحديث الكثير من ذلك الخروج، ومع أنني لا أوافق على ما في السؤال من تعميم فإني أرى وجاهة القول بأن قطاعات عريضة من مجتمعاتنا وبنانا التعليمية والثقافية بشكل عام تحتاج إلى غربلة أساسية لتستطيع مرة أخرى أن تقدم للعالم منتجاً حضارياً يضيف إلى البشرية.

ما الخطاب الأكثر تأثيرا لًمعالجة مسألة تناول النصوص الدينية وكيفية قراءتها للتمكن من طرح موضوعات باسم «الإصلاح الديني»، «تجديد الفكر العربي/ الإسلامي» و{إعادة قراءة التراث»... إلخ؟

لا شك لدي في أن الحل هنا ليس له طريق واحد، بالإضافة إلى أن بعض الحلول متداخل. يتضمن تجديد الفكر العربي الإسلامي إعادة قراءة التراث، والإعادة يرجى أن تؤدي إلى الإصلاح، وهكذا. يحتاج الوضع المعقد إلى مقاربات مركبة تستوعب تعقيداته.

ما رأيك بتفسير بعض الآراء الغربية التي تجد الإسلام متزمتاً بنفسه، أو أن العرب متعصبون بطبيعتهم؟

ظننتنا انتهينا من هذه الآراء الشوفينية مع بعض أنواع الاستشراق وضيقي الأفق من العرب. ليس ثمة دين أو شعب له صفات قارة أو ملازمة يستحيل تغييرها. القول بغير ذلك مناف لحقائق المنطق والعلم، وما يعلمنا إياه التاريخ.

كيف يمكن تفسير قدرة بعض الجماعات لإعادة توليد وإنتاج خطابها وفق أصوليات جامدة؟

لا أعتقد أن تلك الجماعات تنتج خطابات حية متقدة فكراً وإبداعاً، وإنما تنتج خطابات جامدة أيضاً، خطابات مجترة شأن كل خطاب غارق في الأيديولوجيا، أي الفكر عندما يتحجَّر عند نقطة معينة ويبدأ يكرر نفسه. وبالمناسبة، الجميع معرض لهذا التأدلج ما دام الحوار قد غاب سواء مع الذات أو مع الآخر في مراجعة مستمرة تعيد اختبار القناعات، وهذا أمر ليس بالسهل أبداً. من السهل أن نقوله عن خصومنا لا عن أنفسنا.

انتقدت خطاب التنوير العربي مشيراً إلى التسرع في تبنيه وظهوره مهلهلاً فيه ضروب من الإعاقة، ما البديل؟

جاء انتقادي خطاب التنوير من المنطلق نفسه الذي أنتقد فيه الخطاب الأصولي، أي التأدلج واختيار النقل بدلاً من العقل. التنويريون نقليون غالباً، عالة على المعطى الفكري الغربي التنويري وقلما نجد إبداعاً يستوعب الاختلاف الثقافي ومستجدات التاريخ. ولهذا السبب قلت غير مرة أنني رغم انتمائي إلى التنوير العقلاني فإني أحاول قدر المستطاع أن أحتفظ بمسافة تنقذني من الغرق في قناعات تنويرية تتحول إلى أصوليات في قضايا ليست من المقدسات. هذا يؤدي بطبيعة الحال إلى منطقة برزخية أو رمادية غير مريحة إزاء كثير من القضايا، وليس كلها.

أما الحل، ففي اعتقادي أنه يأتي مع الاحتفاظ بمسافة صحية من المراجعة سواء تجاه الآخر أو الذات. التنوير ضرورة فكرية وحضارية أتمنى أن تثريها قدرته على النقد الذاتي واكتشاف الضعف ومن ذلك تقديس الآخر.

قبل سنوات دعيت إلى المشاركة في ندوة حول التنوير أقيمت في الكويت كان ضيفها محمد أركون رحمه الله، وكان تعليقي خارج السرب لأنني طالبت بعدم اجترار مقولات التنوير الفرنسي من دون مساءلة ونقد، فقد تجاوز الغرب نفسه كثيراً من مقولات التنوير، كما عند مفكرين مثل زيغمونت باومان في مفهوم الحداثة السائلة (الذي أترجم كتاباً له حول هذا الموضوع حالياً مع إحدى الزميلات)، وإدغار موران في نقده لما أسماه بربرية أوروبا وغيرهما. التنوير بحاجة إلى مثل تلك المواقف التي لا تعني التخلي عن العقلانية والانفتاح أو غيرهما من أسس لكنها تعرض ما تنطويان عليه من مفاهيم وقناعات للمراجعة الدائمة.

وهذا ما يبعثه «القلق» الذي تناولته مطولاً فًي كتابك «قلق المعرفة... إشكاليات فكرية وثقافية»، حيث أشرت إلى أن «الاطمئنان الداخلي هو نقيض القلق، والقلق هو مصدر المعرفة والناتج عنها في الوقت نفسه». هل يمكن القول إن صخرة سيزيف قدر المفكرين من أجل اطمئنان الشعوب؟

يتضمن هذا سؤال  اسئلة عدة؛ في ما يتعلق بقدر المثقف وتشبيهه بسيزيف، أعتقد أن ثمة وجهاً للشبه من حيث اضطرار المثقف إلى حمل عبء التوعية، أو الرسالة التوعوية التثقيفية، إلى جانب التزامه بقضايا مجتمعه (بمفهوم غرامشي). لكن وضع الصخرة يشير إلى حالة من العذاب الأبدي الذي لا أراه متحققاً إلا في حالات نادرة. فالمثقف لا يجد المعاناة فحسب وإنما يجد المكافأة أيضاً إلى جانب الحقيقة البدهية أن المثقفين ليسوا سواء.

المعاناة التي قصدت في كتاب «قلق المعرفة» هي القلق المبدع وليس القلق المرضي، القلق الذي ينشأ عن الأسئلة ورؤية ما لا يراه الآخرون، وهو أيضاً القلق الناشئ عن عدم القدرة على طرح تلك الأسئلة أو التعبير عن الرؤيا نتيجة عوائق مادية أو معنوية خارج الذات القلقة، وليس العوائق الناتجة عن العجز الذاتي عن القول. في بعض الأحيان، يؤدي هذا اللون من القلق إلى الموت سواء المادي بالانتحار أو المعنوي بالصمت الدائم. لكنه في أحيان أكثر منها يؤدي إلى نتاج ثري ينطوي على مراوحات مليئة بنقاط تشير إلى محذوف، نتاج يهمس بين الأسطر بقدرما يصرح عليها. ذاك قلق المعرفة الذي يدفع صاحبه إلى حمل صخرة سيزيف أملاً في أن تكون مدماكاً لبناء لا عذاباً لبنّاء.

ما ملامح الهوية التي تشير إليها، خصوصاً بدراسة تجارب مفكرين عرب تناولتهم في مقالاتك وكتبك، كمحمد عابد الجابري وإدوارد سعيد وغيرهما؟

ما قصدته هي الهوية الجمعية وليس الفردية، فالأولى أكثر ثباتاً من الثانية. وبهذا المعنى أقول موضحاً إن الهوية الجمعية العربية تصدر ككل الهويات الجمعية عن مرتكزات عدة منها التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وفي تقديري أن الثقافي يأتي أولاً لأننا هنا نتحدث عن اللغة وهي مصدر أساس للهوية ليس من حيث هي وسيلة للتخاطب والاتصال فحسب وإنما لأنها المخزن التاريخي لكل مكونات المجتمع أو الشعب أو الأمة، وحين تهتز اللغة أو تتغير ترتبك الهوية وتتغير. وليس المقام مقام أمثلة وتفصيل وإلا فتاريخ العالم مليء بالشواهد.

المفكران اللذان يشير إليهما السؤال، الجابري وإدوارد سعيد، هما بعض من شغل بقضية الهوية وعلى مستويات عدة. الجابري ناقشها من زاوية الهوية الجمعية عبر بوابة العقل العربي التراكمي وبخصائصه البنيوية، كذلك من زاوية المثقف العربي وإشكالية الانتماء. أما سعيد فشغل أيضاً بالهوية سواء هويته هو بوصفه منقسماً بين ثقافتين وممثلاً من ثم لقطاع كبير من المثقفين العرب وغير العرب، أو على مستوى العلاقات المابين ثقافية وتأثير الآخر. والموضوع من دون شك أكبر من أن يحصر في عبارات قليلة.

في سطور

أكمل الأستاذ الدكتور سعد بن عبد الرحمن البازعي تعليمه الجامعي في جامعة الملك سعود بالرياض (1974)، وحصل على دكتوراه من الولايات المتحدة حيث درس الاستشراق الأدبي في الآداب الغربية (1983).

كان حتى انضمامه إلى مجلس الشورى عام 1430/2009 أستاذاً للأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة الملك سعود. تضاف إلى ذلك نشاطاته الأخرى التي تشمل الكتابة في الصحافة السعودية والمجلات والدوريات المحلية والأجنبية، وقد نشر الكثير من المقالات الصحفية والأبحاث العلمية باللغتين العربية والإنكليزية، كذلك له مشاركات كثيرة في المؤتمرات والندوات المحلية والعربية والدولية، وسبق أن رأس تحرير صحيفة «الرياض ديلي» باللغة الإنكليزية وتحرير الطبعة الثانية من «الموسوعة العربية العالمية» (في ثلاثين مجلداً) ومجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض.

للدكتور البازعي مشاركات دولية كثيرة، فهو ألقى محاضرات في عدد من الدول مثل الولايات المتحدة واليابان وفرنسا والسويد وبريطانيا وروسيا وألمانيا وبولندا إلى جانب دول عربية مختلفة. وتتركز اهتماماته البحثية في الدراسات الأدبية والفكرية ذات البعدين الثقافي العام والفلسفي إلى جانب الترجمة.

إلى جانب ذلك، له عدد من المؤلفات منها:

«ثقافة الصحراء: دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر: (1991)

{دليل الناقد الأدبي: إضاءة لأكثر من سبعين تياراً ومصطلحاً نقدياً معاصراً} (مشترك، 2002).

{شرفات للرؤية: مقالات حول العولمة والهوية والتفاعل الثقافي} (2004)

{المكون اليهودي في الحضارة الغربية} (2007)

{الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف} (2008)

{سرد المدن: في الرواية والسينما} (2009)

{قلق المعرفة: إشكاليات فكرية وثقافية} (2010)

{لغات الشعر: قصائد وقراءات} (2011)

{مشاغل النص واشتغال القراءة} (2014)

{مواجهات ثقافية} Cultural Encounters (باللغتين العربية والإنكليزية) (2014)

New Voices of Arabia: The Poetry (2012)- 

back to top