رأي : أزمة الديون اليونانية والسيناريوهات المحتملة

نشر في 06-05-2015
آخر تحديث 06-05-2015 | 00:01
 د.وفاء سبيتي أزمة الديون لدى دولة ما تعني أن دخل الدولة واحتياطياتها أقل من تكاليف الديون المترتبة عليها، والتي تصدرها عادة كسندات خزينة، فعندما يصبح دخل الدولة أقل من تلك التكاليف كفوائد السندات المستحق سدادها وقيمة السندات التي استحق سدادها، أو اقترب موعد سدادها، فإن قيمة ديونها، التي تشتريها عادة دول أخرى وبنوك ومؤسسات مالية عالمية، تنخفض، وعندما تصبح الدولة عاجزة عن سداد ديونها ولا تجد التمويل الكافي، فإنها تسعى لرفع معدل الفائدة بهدف جذب التمويل، وكنتيجة طبيعية لذلك يزداد حجم الديون وتهتز الثقة في هذه السندات، التي لم تعد أداة مالية جاذبة للمستثمرين كما في السابق، بل إن من يمتلكها قد يعمد إلى التخلص منها بأي طريقة، لأن الدولة المصدرة لها عاجزة عن السداد، فيظهر العجز في ميزانيتها، ما يؤدي إلى أزمة مالية تؤثر على اقتصاد البلد برمته، وبما أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، فلا بد أن ينعكس ذلك على الوضع السياسي وعلى الحكومة، ويمكن أن يؤدي إلى إسقاطها.

هذا ما حدث بالضبط في اليونان عام 2010، عندما عصفت باقتصادها أزمة مالية بسبب تضخم حجم الديون السيادية، التي بلغت ما يقارب ٣١٥ مليار يورو، وفقاً لهيئة الإحصاء اليونانية، إلى جانب ارتفاع الفائدة على السندات إلى معدلات عالية، وارتفاع التأمين عليها ضد التخلف عن السداد نتيجة مخاوف المستثمرين من إفلاس اليونان، وبالتالي عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية، لا سيما في ظل ارتفاع العجز بالميزانية إلى 13.6 في المئة، مع العلم أن المسموح به أوروبياً هو 3 في المئة. هذه الظروف الاقتصادية حملت رئيس الحكومة آنذاك، جورج باباندريو، إلى تقديم استقالته في 9 نوفمبر 2011، ولأن اليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، وأزمتها يمكن أن تهدد استقرار منطقة اليورو بأكملها، كان التحرك سريعاً من الاتحاد بقراره تقديم المساعدة لليونان، ضمن ما يسمى بخطة الإنقاذ الأوروبية مقابل تنفيذها إصلاحات اقتصادية وإجراءات تقشف تهدف إلى خفض العجز في ميزانيتها، والتي صادق عليها البرلمان اليوناني لاحقاً، رغم الأصوات المعارضة داخل وخارج البرلمان، حتى عندما أراد باباندريو التراجع عنها تلقى تحذيراً واضحاً من الأوروبيين بأنه لن يحصل على أموال كافية إذا لم ينفذ خطة التقشف، وذلك قبل تقديم استقالته. بعده جاءت الحكومة الجديدة التي أقرت المزيد من إجراءات التقشف في تحد واضح للاحتجاجات والمظاهرات العنيفة في أثينا، كل هذه الظروف ترافقت مع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما عقد الأمور أكثر فأكثر، وقلل كثيراً من قدرة اليونان على الحصول على قروض جديدة لتسديد ديونها.

ورغم سياسة التقشف الصارمة التي فرضتها الحكومة بضغوط من الترويكا الدولية (الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي) والدائنين، التي تهدف إلى خفض العجز في ميزانيتها، فإنه يبدو حتى الآن أن هذه السياسة لم تؤت ثمارها، فالمطلوب على الأقل الوصول إلى مستويات عجز مسموح بها، لكي تتم السيطرة على الوضع، وضمان عدم تفاقمه، لأن الدول التي قدمت القروض هي دول أوروبية، كفرنسا وألمانيا، وعدم السداد يمكن أن يجعل اقتصاداتها تتعرض لخضات، ما يؤثر على دول أخرى في المنطقة تعاني أزمات اقتصادية، كإسبانيا والبرتغال.

ومما زاد الأمور تعقيداً مؤخراً، فوز حزب سريزا المعارض والمتشدد، الذي يرفض أصلاً خطة التقشف، ويطالب باستقلال اليونان عن منطقة اليورو، على حزب المحافظين، الذي يدعو إلى اعتماد خطة تقشف وجدولة ديون اليونان. الآن حزب سريزا يتفاوض لتخفيف عبء الديون في وقت تتشدد دول الاتحاد في التنازل عن أي قروض أو إعادة هيكلة الديون.

في ظل هذه الظروف أمام اليونان خياران، إما أن تستمر في المفاوضات على الديون وما يرافقها من عدم استقرار لفترة غير معلومة، أو الخروج من منطقة اليورو.

بالنسبة للخيار الأول، فإن استمرار المفاوضات وعدم الاستقرار يعني أن الأمور ستراوح مكانها لفترة غير معلومة، وسيترتب عليها المزيد من الضغوط والإحراجات على دول كفرنسا وألمانيا باعتبارهما أقوى اقتصادين في أوروبا، وطلب المزيد من التدخل من صندوق النقد، وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، ويمكن أن يوصل الأمور إلى طلب مساعدة دولية لمنطقة اليورو.. لذلك فإن الأزمة اليونانية تشكل تحدياً كبيراً للاقتصاد الأوروبي بشكل خاص، وللاقتصاد العالمي بشكل عام، وعليه فإن التوقعات متوسطة وطويلة الأجل ستظل غير واضحة بشكل مقلق.

أما بالنسبة للخيار الآخر وزيادة احتمالات خروج اليونان من اليورو، وبالرغم من أن الوقت ما زال مبكراً جداً لمثل هذا القرار، فإن الجهود الدولية والأوروبية مستمرة لمنع تفاقم الأزمة، فدول الاتحاد الأوروبي تعمل بكل قوتها لدعم اليونان في أزمتها، وتلافي إفلاسها وإيجاد حل لأزمة ديونها، فمجموعة الثماني، الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان وكندا وإيطاليا، أكدت في قمتها الأخيرة على أنها تعمل على تفادي خروج اليونان، وبقاء الاتحاد المكون من 19 دولة.

وبالرغم من أن احتمال خروج اليونان من اليورو يبقى ضعيفاً حسب الخبراء في الشأن اليوناني، فإن القلق من عدم الاستقرار يبقى حاضراً، فوجود اليورو يعطي نوعاً من الأمان لليونان، والعودة إلى العملة القديمة يمكن أن تكون له تأثيرات سلبية وعواقب غير محمودة، خصوصاً بعد أن بدأ البنك المركزي طبع المزيد من النقود لشراء سندات سيادية، ما قد يساعد كثيراً دولاً تنفذ برامج تقشف مثل اليونان، ما قد يدعمها للبقاء في منطقة اليورو.

خروج اليونان من منطقة اليورو في حال تم تنفيذه لن يكون تأثيره فقط على دول الاتحاد، ولكن أيضاً على الاقتصاد العالمي من ناحية الثقة والتمويل والتبادل التجاري، صحيح أن تنفيذ الخروج يعني أن اليونان ستتخلص من جزء كبير من ديونها، لكن على الجانب الآخر يمكن أن يؤدي إلى هزات اقتصادية في منطقة اليورو، وإضعاف العملة الأوروبية أكثر فأكثر، ويمكن أن يتسبب بمأزق للاتحاد الأوروبي، وزعزعة المشروع الأوروبي بشكل عام.

وأيضا قد يرغم دولاً أخرى تواجه مشاكل مالية على الخروج وستكون ضربة قاسمة للمشروع الأوروبي بمجمله، وسيتم فقدان الثقة فيه، وتراجع الدول التي كانت تريد الانضمام إليه، وسيقضي على جهود بناء اتحاد أوروبي قائم على فكرة التضامن بين الأوروبيين.

الفشل في احتواء أزمة اليونان سيكون له تأثير سلبي على عجلة النمو الاقتصادي العالمي، حيث لا توجد دولة تستطيع أن تعيش بمعزل عن الاقتصاد العالمي، لذا فإن وجود منطقة يورو قوية متماسكة ومستقرة يضمن استقرار الاقتصاد العالمي.

خروج اليونان هو أكثر السيناريوهات تشاؤماً، كما عبر عن ذلك آلان جرينسبان الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي، لأنه يعني نهاية العملة الموحدة، وهذا الوضع سوف يترك "المركزي الأوروبي" حاملاً للمليارات من اليورو التابعة لديون اليونان بقليل من الاختيارات والحلول المتاحة، وسوف يواجه اليورو خطر انخفاض أكبر في قيمته، ليترك منطقة اليورو بيئة طاردة للمستثمرين، ويمكن أن يشهد خروج مستثمرين عالميين بشكل جماعي، ما قد يتسبب في مشكلة تعسر مالي، والدخول في دوامة الانكماش الاقتصادي.

المطلوب من الاتحاد الأوروبي في المستقبل اتباع سياسات أكثر تشدداً مع الدول الأعضاء، والمتابعة المستمرة لاقتصاديات هذه الدول على مستوى الميزانيات، وحثها على الشفافية بما يضمن عدم تفاقم المشكلات ووجود إنذار مبكر لأي أزمة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، وتكون للعلاج تكاليف باهظة.

يجب على دول الاتحاد وضع حلول طويلة الأجل لا مؤقتة، فوضع خطط طوارئ تشمل فرض ضوابط على رأس المال في منطقة اليورو ليس كافياً، إذ لا بد من المحافظة على قوة اقتصادات إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وتجنيبها ما حدث في اليونان، ووضع إجراءات وقائية، وليس فقط انتظار المشكلة لتحدث، ومن ثم وضع حلول لها.

*دكتورة الاقتصاد في الجامعة الأميركية بالكويت

back to top