لحن الفقد والألم

نشر في 25-03-2014
آخر تحديث 25-03-2014 | 00:01
 ابتهال القزويني أقبل الشتاء ومازالت نيران الغازي تشوي الوجوه وتحرق القلوب وتعري العظام، وفي ليلة اشتد بردها تحبس الأنام والأحياء...عرص برقها وقصف رعدها وعلا صريخ ريحها فجن جنون الشجر فيها لافحا بذوائبه الهواء والجدران والأبواب... زحفت أصابع الشيطان على دروب البلدة الصابرة، غير عابئة بهيجان الطبيعة وغضبها، تملأ جوفها بفلذات الأكباد... تجرها إلى جحورها العفنة... تمتص دماءها وتلقي بأشلائها على عتبات الدور كخرق بالية، قاذفة جمرات القهر في جوف الأحبة، وتركها تتلظى بنيران الفجيعة، أطرافها اللزجة تطرق البوابة بعنف، ضرباتها المرعبة جلجلت لها قواعد البيت القابع فوق أرض الكرامة، تدافع ساكنوه مرتعدي القلوب مرتجفي الأوصال، وهو أمامهم يسير بثبات غير هياب، حاملا بيده شمعة يتلمس طريقه في الظلمة، تلك الظلمة التي أغرق بها ظلم الإنسان أخيه الإنسان ، ما كاد يقع بصره على تلك الوجوه التي ضاعف ظلال الشمعة قماءتها حتى صوّب ضوء ساطع نحو عينيه غيب بصره، وبصوت كفحيح الأفاعي نفث الوحش الآدمي سما زعافا في مسمعه وهو يكوره في مركبة عسكرية ألوت به شاقة عباب الماء المنهمر.

غاب بارتداد طرف ورحل نحو المجهول... زوجه التي لحقت به ظلت مسمّرة، سرعة ما حدث أذهلها... عقدت الدهشة لسانها وتاهت الحروف والكلمات من لبها... لم تقو على النبس ببنت شفة... ظلت فاغرة الفم... جاحظة العينين... تشيّع ببصر زائغ شبحه الذي التقمته غياهب الظلم ووليدها بين ذراعيها... تشده إلى صدرها... تحاول دفنه بين أضلعها خوفا من أن تمسه تلك المسوخ المنسلخة من آدميتها...

صراخ الرضيع المتوجع أعادها إلى رشدها... نداء أمها المنكسرة حرك قدميها... قادها اللاوعي إلى داخل المنزل وبصرها يدور في محجره يبحث عن لا شيء... أغلقت العجوز الباب وقد زاد ظهرها تحدبا...

ولجت مخدعها ولسان حالها يقول: أواقع ما جرى أم وهم وخيال وهلوسة محموم!

لقد اختفى كورقة حلقت بها ريح عاتية، فلفها الضياع... هواجسها تأكل روحها وتمعن في تعذيبها... أفكارها المتلاطمة تملأ رأسها بأخيلة موجعة وصور بشعة... صنوف التنكيل... عويل المعذبين... صرخات الفزعين... أنين المتوجعين... أرواح تعالج سكرات الموت في عزلتها...

ألقت برأسها بين يديها... صرت على أسنانها وزمَت شفتيها ألما... ابتهلت بكل ما اعتمر به وجدانها من إيمان أن يحمل لها الغد ما يخفف به لواعج صدرها ويسكّن روعها... ظل بصرها معلقا بالنافذة يستحث نور الصباح، ووالدتها ترمقها بعين دامعة... شاحبة الوجه مبيضة الشفتين...

تفتق النور من عباءة الليل متمهلا على استحياء أن يلطخ بمولده عار جديد وجه الإنسانية فيوصم بوصمة أبدية لا يمحوها كرور الليالي والأيام.

ذات الضربات العنيفة تزلزل أركان المنزل، وثبت يتنازعها الخوف والرجاء ويعترك داخلها الوجل والأمل، أشرعت الباب على عجل، هالها ما رأت، بادت قواها... تراخت ركبتاها... صرخت صرخة انتزعتها من أعماق روحها الملتاعة وهوت بجسدها النحيل فوق المتسربل بدماه تستنهضه، قم أيها الزوج الحبيب، أيها الأب الحنون، أيها الابن البار، عزف نشيجها على قيثارة الأوجاع والأحزان لحن الفقد والألم، هبت قلوب بلدتها الرحيمة مواسية، يملؤون جفونهم ويهرقونها بسخاء يجرّون آهات حرّى على الوجه الصبيح المتشح بجلال الشهادة والبدن الفتي، وقد نسج له نجيع الدم الدافق ثوب الفخر والفداء.

back to top