الغذامي ... و صحْونة الحداثة!

نشر في 26-05-2013 | 00:02
آخر تحديث 26-05-2013 | 00:02
No Image Caption
لم يعد الناقد السعودي د.عبدالله الغذامي هو ذلك التراثي الأصيل، ولا هو ذلك الحداثي حامل لواء القطيعة... إنها أزمة «البين بين»... فهل أخطأ صاحب «الخطيئة والتفكير» في حسابات «المُزايدة» ومغازلة التيار السلفي، غريمه سابقاً؟!
ليست يقظة صَحوية على الأرجح، فالمسافة التي تفصل الناقد السعودي د. عبدالله الغذامي عن خطاب صحوي حريص على خصوصيته الثقافية، لا تختزل بمجرد تراجع درامي أو مغازلة حداثية لغريم سلفي. الأكيد أن صاحب الخطيئة والتكفير أخطأ في حسابات المزايدة، ليس لأن المجابهة على أرضية الخصم الثقافي واستعارة أدواته محكومة بالخسارة سلفاً، بل أيضاً لانجراره إلى انتهاكات قواعد اللعبة بين فضاءات منفصلة ومستقلة بحسب توظيف الباحث ستيفان لاكروا مؤلف «زمن الصحوة» لنظرية المجالات الاجتماعية «لبيار بورديو{.

الصحوة خصم الحداثة، لكنها تشكل مجالاً موازياً للحيز المشغول بتيار الصحوة الذي أخل بلعبة الخطابات والتوزيع المتوازن للأدوار، متجاوزاً حيزه الخاص ليبتلع حيز «الأنتلجنسيا». وبمعزل عن الوجاهة أو القيمة المعرفية لتوظيف لاكروا، يبدو فعلاً أن صاحب «الخطيئة والتكفير» لم يتقن أداء دوره كحارس للحداثة والتنوير... لقد ابتلع الغذامي الطعم!

شعار قديم

«أن أكون مثقفاً حداثياً أو لا أكون» ذلك شعار الغذامي حين كان حامي حياض الحداثة والمدافع الشرس عنها، ليس فحسب في وجهها الأدبي مع كتابه «الخطيئة والتكفير» ولكن أيضاً للحداثة كفكر وثقافة وقيم، أي منذ لحظة «حكاية الحداثة» التي سرد فيها ولادتها العسيرة.

سيتسم التحديث بالخصوصية، شأن هذا الكل المركب الذي ولد عشية أول احتكاك فعلي للوعي بسؤال الحداثة، فتحت هذا السؤال ولدت صياغات عدة أنتجت سرداً خجولاً للحكاية، السرد الذي ستنجم عنه الرواية التي تحيط الذات بأسيجة الممانعة.

فالحداثة التي هي كلٌ {شمولي} يحيلها سرد الغذامي إلى فتات مجزأ، إلى ممارسة انتقائية تبرر ذاتها في سلسلة من التشوهات لما بعد الحداثة التي هي أساساً عقلنة للتعدد ومحاولة لدمج واستيعاب المختلف والآخر، لتصبح هنا تبريراً لهيمنة تراثية تعود بما بعد الحداثة إلى ما قبلها حيث إلغاء المختلف ونفي الآخر.

ما بعد الحداثة ليست هي ما قبلها، لكن السرد يلحّ على التماهي، كاشفاً عن تطويع مخل بالمجالين في آن: الديني، والثقافي... تطويع هو في الآن نفسه خضوع لذات منهزمة إزاء التضخم الصحوي. لم يكن عقل الحداثة في مرحلتها المابعدية، بفرض الاستمرارية بين الحداثة وما بعدها، عقلاً محضاً، وإنما مشروع مفتوح أو فاعلية اتصالية، أو حداثة لم تكتمل بعد. لكن تصور الغذامي، حتى لا نقول شعوذته، يحيلها إلى مجرد تبرير لعقل تراثي كلي وثابت ويتسم بصلاحية مطلقة، فالغذامي في توبته النصوح يوضح لنا في كتابه المذكور، أن استعادة الروح التراثية في الوحدة الميتافيزيقية هي ما يشكل تصوراً محلياً للحداثة كما تبدت في {الحساء الحداثي} الذي نتج منه، رغم عدته النقدية والمعرفية الشامخة، مزيداً من التتريث والتشويه المضاعف والمزدوج: فلا هو توحيد ولا هو تحديث!

سرد إشكالي

«حكاية الحداثة» عند الدكتور الغذامي تتسم بسرد إشكالي للمفهوم، فالحداثة هي وعي بالزمن وتجاوز الماضي، إنها إدراك بتحديات المعاصرة، لكنها في ذات الوقت يجب أن تكون تمثيلاً أو إنجازاً للذات نفسها وليست إسقاطاً وتماهياً حد الاغتراب بالآخر المختلف. من هنا كانت محاولة الغذامي في تصوره للذات وهي تخوض معترك الحداثة.

كما أنها ليست استعارة، بل يجب أن تكون جهداً ذاتياً، نشاطاً يرتبط عضوياً بالهوية المتعالية على التاريخ، مع ذلك فهي تمثل تحولاً ثقافياً يتموضع في السياق التاريخي. إنها في مفهوم الغذامي تمثل امتداداً للذات وليس قفزاً عليها، أو تأكيداً للهوية وليس نفياً لها.

حتى هنا لا يتجلى البعد الإشكالي. فما هو موضع تساؤل ليس في المفهوم أو التصور في حد ذاته بقدر ما يكمن في التطبيقات. معالجة الغذامي لسؤال الحداثة لا تخلو رغم متانتها النقدية وقيمتها المعرفية من انتقاء وتبعيض في المفهوم ذاته بحيث لا تتسم بأي وحدة موضوعية أو اتساق منهجي، المعالجة في شقها الفلسفي وكل انعكاساته على الأدب والفكر ليست هي نفسها في شقها الاجتماعي والسيادي، كأن رقيباً داخلياً أمعن في تفتيت القراءة وشطرها، الحداثة في بعديها التقني والفلسفي هي وافد مرحب به من الرقيب نفسه الذي شطب بعدها المزعج، هذا ما نجده متجلياً بوضوح في الجولة الشيقة للكتاب: {حكاية الحداثة}.

المكان له خصوصيته، هكذا يريد أن يقول صاحب {النقد الثقافي}، وبما أنه كذلك فإن مفهوماً رعوياً للتوحيد الميتافيزيقي هو بحد ذاته حداثة، ولادة هذا المركب الاصطناعي في زمن تمزق الكيانات التاريخية هي فعل جدير بوصفه بالحداثة لمجرد مغايرته للماضي المحلي. ودمج المجزأ إلى كل، هو الشكل التاريخي الاجتماعي للحداثة حتى وإن كان هذا الكل إعادة إنتاج لذات تراثية، ولكن تحويل القبائل إلى قبيلة واحدة هو إنجاز يرضي الطموح في القرن السابع الميلادي وليس في القرن العشرين، مع ذلك يمثل إنجازاً بمستوى عقل متفتق ونقدي يقود إلى ما يمكنني أن أسميه: {صحونة الحداثة}!  

تداخل

إسقاط الصحوة على الحداثة أو العكس، هو تداخل بين المجالات ينسف التأطير النظري الذي لجأ إليه لاكروا، لكنه أيضاً يستعيد تلك الترجمة الفريدة لمنجزات حداثية تحيلها إلى شكلانية، مما يعزز فردوسية زمن ثقافي عتيق: المعاني مرماة على قارعة الطرق. إنه تأليه الشكل ومركزية اللفظ والديكور والستايل الفخم! فاستدعاء التقنية وبعض الفتات من المنجزات المعرفية والفلسفية والعلمية وإهمال مفاعليها في ذلك النسق المزعج لا يوفران غصن زيتون صحوياً بقدر ما سيكشفان عن هشاشة توطين الحداثة بأبعادها كافة المترابطة عضوياً.

البديهي أن الحداثة ليست هي المعاصرة، ليست استبدال طائرة بجمل أو قصيدة نثر بعمودية. إنها القطيعة، التي يفصلها خطاب الغذامي على مقاسه، إذ لا تعارض بين قطيعة أدبية وإعادة إنتاج ذات تراثية وموضعتها بكل ما تحمل من مضامين تراثية في صرح الحداثة.

لن تكف {الحداثة التائبة} عن صحونة المفاهيم أو الاستدعاء الانتقائي للمقولات بغرض تبيئتها، بل ستمرّر المفاهيم والمنجزات الأكثر حداثة ضمن توظيف انتهازي لتدشين حلف سعيد بين رؤية تحسب نفسها متجاوزة ورؤية غارقة في أمجادها التراثية، كانتفاء المركزية، والحق والعدالة وغيرها، وذلك كله بمثابة عربون للصداقة داخلياً ومواجهة للتغريب الثقافي خارجياً... ويا للمفارقة... تلك هي محنة الغذامي... لا هو ذلك التراثي الأصيل، ولا هو ذلك الحداثي حامل لواء القطيعة. إنها أزمة {البين بين} التي لاحظها شايغان كشكل هجين لخطاب متردد، أو نزعة تلفيقية شكلت خطاب النهضة وأدت إلى تراجعه... فمن يتعظ!

back to top