«دستور 2012»... آلة حسنة التصميم لتكبيل السلطات لكنها غير قابلة للعمل!

نشر في 06-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 06-08-2013 | 00:01
ينظر كثير من الباحثين إلى الوثائق الدستورية العربية باعتبارها وعوداً مرائية بالحقوق والحريات والممارسات الديمقراطية يقصد من ورائها خداع مواطني الشعوب العربية والمراقبين الأجانب ومحاولة إخفاء ملامح سلطة الحكم المطلق وتمويهها خلف ستار دستوري مخملي زاهي الألوان. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للدساتير التي يتم كتابتها في الظروف الاعتيادية، فما بالنا بالأوضاع الاستثنائية والحرجة التي جرى فيها كتابة الدستور المصري الاول للجمهورية الثانية في مصر، لذا فإن الأمر استلزم قراءة متأنية ومتعمقة لنصوص ذلك الدستور الذي يحلو لكثيرين تسميته بـ«دستور الإخوان»، وهو ما قام به الخبير الدستوري الدكتور محمد طه عليوة في دراسة أجراها للدستور المصري الجديد 2012، وتنشرها الجريدة على أربع حلقات، واستعرض فيها الظروف والملابسات التي جرى فيها صياغة الدستور وإعداده وسلبياته وإيجابياته والتداعيات والمخاطر التي انطوت عليه بعض الصياغات التي فتحت الباب لوجود مساحات مطاطية رمادية يمكن ملئها مستقبلاً بنصوص تلاقي أهواء تيارات إسلامية بعينها. 

وفي ختام دراسته يخصص الخبير الدستوري د. عليوة حلقته الأخيرة لوضع تصوراته لمقترحات وتعديلات يتعين إجراؤها لتلافي أوجه القصور والعوار التي شابت صياغة دستور «الإخوان».

الباب الثالث: السلطات العامة 

الآن نصل إلى بيت القصيد: الباب الثالث "السلطات العامة"، وهو لب الدستور، وفيه ثلاثة فصول؛ أولها، "السلطة التشريعية". والثاني، "السلطة التنفيذية". والثالث "السلطة القضائية".

الفصل الأول المخصص لتنظيم السلطة التشريعية يتضمن ثلاثة فروع أولها للأحكام المشتركة بين المجلسين، والثاني لمجلس النواب، والثالث لمجلس الشورى.

وقد نقل الدستور الجديد مجلس الشورى من الباب السابع الذي كان مضافاً إلى دستور 1971، إلى فصل السلطة التشريعية، توافقاً مع تحوله إلى مجلس نيابي كامل الاختصاصات، لتعود مصر بذلك إلى نظام المجلسين الذي كان معمولاً به في ظل دستور 1923 وحتى 1952. ونصت المادة (82) من الدستور الجديد على أن "تتكون السلطة التشريعية من مجلس النواب ومجلس الشورى"، وطرح في مناقشات الجمعية تسمية المجلس بمجلس الشيوخ، ثم انتهى الأمر إلى الإبقاء على اسمه، ربما لاعتبار الشورى هي ديمقراطيتنا الإسلامية، في حين أن الاسم المتعارف عليه عالمياً أنسب لواقع حاله وتركيبه. 

 

الثبات والرسوخ

 

وإذا كان كثيرون قد ذهبوا إلى الاكتفاء بمجلس نيابي واحد يمثل إرادة الشعب في وضع التشريعات التي تدار على أساسها حياة أفرادها المشتركة، ويكون صاحب القول الفصل في تعيين الحكومة ومحاسبتها وسحب الثقة منها، فإن نظام المجلسين، المعمول به في عدد وافر من دول الديمقراطيات الراسخة ضرورة لمصر في ظرفها الراهن، بالنظر إلى الاختلاف في طريقة تكوين مجلس الشيوخ (الشورى) وشروط عضويته عن مجلس النواب. وذلك لضمان قدر أكبر من الثبات والرسوخ المفترضين في القوانين، باعتبارها أهم القواعد التي تدار على أساسها حياة الجماعة. مع استقلال المجلس الأدنى (مجلس النواب) بسلطة تعيين الحكومة بمنحها الثقة أو حجبها، ومحاسبتها ومراقبتها وسحب الثقة منها، وبإقرار الموازنة العامة واعتماد حسابها الختامي.

وقد تبنى دستور 2012 ذلك الاتجاه، وصيغت المواد المتعلقة بالسلطة التشريعية وفق النماذج الدستورية الآخذة بنظام المجلسين، بحيث تقدم مشاريع القوانين من رئيس الجمهورية أو الحكومة أو النواب إلى أي من المجلسين، وبعد أخذ الرأي وما قد يلزم من التعديل، يقره المجلس الذي قدم إليه المشروع ويحيله إلى المجلس الآخر، ولا يكون قانوناً إلا إذا أقره المجلسان (م 101، 102) وفي حال الخلاف بين المجلسين، تشكل لجنة مشتركة من عشرين عضواً يختار كل مجلس نصفهم من بين أعضائه لاقتراح نصوص للمواد محل الخلاف وتعرض المقترحات على المجلسين، فإذا لم يوافق أحدهما عليها يعرض الأمر على مجلس النواب، ويؤخذ بما ينتهي إليه بأغلبية عدد أعضائه (م 103). 

ويبلغ مجلس النواب رئيس الجمهورية بالقوانين بعد إقرارها لإصدارها وله حق الاعتراض التوقيفي على ما يقره المجلسان خلال ثلاثين يوماً من إبلاغه بالقانون وطلب إصداره، فإذا لم يعترض خلال هذه المدة، أو مارس حق الاعتراض يرد القانون إلى المجلس، فإذا أقره مجلس النواب ثانية بأغلبية ثلثي عدد الأعضاء، استقر قانوناً وأصدر (م 104).

 

رقابة الحكومة

 

والفرع الثاني ينظم الأحكام الخاصة بـ"مجلس النواب": عدد أعضائه (م 113) ومدة العضوية (خمس سنوات- م 114)، وتحديد اختصاصاته (م 115) التي نصت على أن يتولى مجلس النواب سلطة التشريع وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية على النحو المبين في الدستور. وتُفصّل المواد التالية ما أجملته هذه المادة من سلطات المجلس في مجال الموازنة (م 116) وتعديلها (117)، وأن ينظم القانون القواعد الأساسية لجباية الأموال العامة وإجراءات صرفها (118)، ويقيد السلطة التنفيذية في الاقتراض والحصول على تمويل والارتباط بمشاريع يترتب عليها إنفاق من الخزانة العامة بموافقة المجلس (120)، وقواعد عرض الحساب الختامي- مقروناً بملاحظات الجهاز المركزي للمحاسبات- على المجلس، وأن يعتمد بقانون (121)، ثم إجراءات مراقبة المجلس للحكومة ومساءلتها وسحب الثقة منها أو من أحد وزرائها عن طريق الأسئلة وطلبات الإحاطة والاستجوابات (المواد 122- 126)، وتقيد المادة (127) حق رئيس الجمهورية في حل المجلس بأن يكون بقرار مسبب وبعد استفتاء الشعب، وإجراءات ذلك، على أن يستقيل رئيس الجمهورية في حال جاءت نتيجة الاستفتاء برفض قراره، وفي حال قبوله يدعو الرئيس لانتخابات جديدة خلال ثلاثين يوماً من قرار الحل.

 

"الشورى" والمالية العامة

 

وحدد الفرع الثالث اختصاصات "مجلس الشورى": تشكيله (م 128)، وشروط العضوية (م 129) التي حددت مدتها بست سنوات مع تجديد نصف عدد الأعضاء كل ثلاث سنوات، وحددت المادة (131) اختصاصاته وهي، عدا المشاركة في التشريع الواردة في الفرع الأول، انفراده بسلطة التشريع عند حل مجلس النواب، على أن تعرض القوانين التي أقرها على مجلس النواب فور انعقاده ليقرر ما يراه بشأنها. 

وأجازت المادة لرئيس الجمهورية، عند غياب المجلسين، إصدار قرارات لها قوة القانون إذا طرأ ما يستوجب الإسراع باتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، تعرض على مجلس النواب ومجلس الشورى خلال خمسة عشر يوماً من انعقادهما، فإن لم تعرض أو عرضت ولم تقر، زال ما كان لها من قوة القانون بأثر رجعي إلا إذا رأى المجلس (وكان الأصح أن يقال: المجلسان) اعتماد نفاذها خلال الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب عليها من آثار بوجه آخر.

وتنظيم السلطة التشريعية على هذا النحو يتفق مع أسس النظام البرلماني، مع بعض السلطات للرئيس، كالاعتراض التوقيفي على القوانين واقتراح القوانين وحق الحل وحق إصدار قرارات لها قوة القانون في غياب المجلسين. وهو تنظيم موفق ولا يحتاج من وجهة نظري إلى تعديل، كذلك الحال في ما يتعلق بجعل الأمور المتعلقة بالمالية العامة ومساءلة الحكومة من اختصاص مجلس النواب. وإن كان اعتماد الموازنة العامة والحساب الختامي بقانون يجعل لـ"مجلس الشورى" دوراً فيهما، وكان الأولى أن ينفرد "مجلس النواب" بالاختصاص بهما بنص صريح في الدستور. والدستور الفرنسي على سبيل المثال يجعل لمجلس الشيوخ (المادة 47) دوراً تحكيمياً إذا لم تستطع الجمعية الوطنية البت في مشروع قانون متعلق بالمالية العامة، على أن يعاد عرضه على لجنة مشتركة من المجلسين ( المادة 45)، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق جاز أن يصدر القانون المالي بموجب مرسوم. ويبدو من ذلك أنه بينما عنى الدستور المصري ضرورة الاتفاق بين المجلسين، عنى الدستور الفرنسي بوضع الحلول العملية للتعقيدات المحتملة الحدوث.

 

النظام المختلط

 

أما الفصل الثاني المخصص للسلطة التنفيذية، فقد خصص فرعه الأول لرئيس الجمهورية، ونصت مادته الأولى (132) على أنه رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، يرعى مصالح الشعب ويحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه ويراعي الحدود بين السلطات. وهذا أحد مظاهر المزج بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي. على أن الدستور المصري، وعلى خلاف دستور 1958 الفرنسي المتخذ نموذجاً للنظام "المختلط"، الذي جعل تدخل الرئيس في عمل الوزارة محدوداً ومنظماً، قد جعل الرئيس شريكاً في كل أعمال الوزارة تقريباً-- عدا كثير من الاختصاصات التي يمارسها منفرداً دون الوزارة. إذ نصت المادة (140) على أن رئيس الجمهورية يضع بالاشتراك مع مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة ويشرفان على تنفيذها، ونصت المادة (141) على أن يتولى الرئيس سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء عدا ما يتصل منها بالدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية والسلطات المنصوص عليها بالمواد (139): اختيار رئيس مجلس الوزارء، و(145): تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية والمعاهدات التي يشترك البرلمان معه فيما يتعلق منها بالسيادة، و(146) أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة على أن يكون إعلان الحرب وإرسال القوات المسلحة خارج الدولة، بعد اخذ رأي مجلس الدفاع الوطني وموافقة مجلس النواب، و(147) تعيين الموظفين وعزلهم، و(148) إعلان حالة الطوارئ، و(149) العفو عن العقوبة وتخفيفها، على أن يكون العفو الشامل بقانون.

وباستعراض تلك الاختصاصات نجد فيها تجاوزاً شديداً لسمات النظام البرلماني لمصلحة النظام الرئاسي، بحيث تكاد تكون الوزارة مختصة بإدارة الشأن الداخلي، وهي تمارسه تحت وصاية رئيس الجمهورية، أو بتوافقهما معاً. 

فضلاً عن ذلك نظمت المواد من (133) حتى (138) إجراءات ترشح الرئيس وانتخابه ومدة ولايته ومعاملته المالية، ونظمت المواد من (152) وحتى (154) اتهامه ومحاكمته، وحالات خلو منصبه.

 

محاسبة الحكومة

 

والفرع الثاني من هذا الفصل مخصص للحكومة التي تتكون (طبقاً للمادة 155) من رئيس الوزراء ونوابه والوزراء، وحددت المواد الثلاث التالية الشروط الواجب توافرها فيمن يُعيَّن رئيساً للوزراء أو عضواً بالحكومة، والقسم الذي يؤديه كل منهم ومعاملتهم المالية. وتحدد المادة (159) اختصاصات الحكومة (وهي نفس الاختصاصات الواردة في المادة (156) من دستور 1971) وأولها الاشتراك مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها وتوجيه أعمال الوزارات والجهات والهيئات العامة التابعة لها والتنسيق بينها ومتابعتها، وإعداد مشروعات القوانين والقرارات وإصدار القرارات الإدارية وفقاً للقانون ومراقبة تنفيذها، وإعداد مشروع الموازنة العامة للدولة، ومشروع الخطة العامة للدولة، وعقد القروض ومنحها وفقاً لأحكام الدستور، ومتابعة تنفيذ القوانين والمحافظة على أمن الوطن وحماية حقوق المواطنين ومصالح الدولة. 

ويتولى كل وزير رسم السياسة العامة لوزارته ومتابعة تنفيذها والتوجيه والرقابة في إطار السياسة العامة للدولة (م 160)، ويصدر رئيس مجلس الوزراء اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، وله أن يفوض غيره بذلك، إلا إذا حدد القانون المخول بإصدار لائحته التنفيذية (م 162) ويصدر رئيس مجلس الوزراء اللوائح اللازمة لإنشاء المرافق والمصالح العامة وتنظيمها بعد موافقة مجلس الوزراء، فإن رتبت أعباء جديدة على الموازنة العامة وجبت موافقة مجلس النواب (164) وتنظم المادتان (166 و167) محاسبة أعضاء الحكومة جنائياً واستقالتها أو استقالة عضو فيها.

 

الشكوك التاريخية

 

والملاحظ على هذا الفرع، ارتباطاً بالفرع السابق "رئيس الجمهورية"، أنه بينما أصبح رئيس الجمهورية (من حيث التبويب) جزءاً من السلطة التنفيذية، فإنه احتفظ باختصاصاته التي يمارسها "فوق السلطات" كرئيس للدولة، وبكثير من الاختصاصات التنفيذية التي يمارسها منفرداً، فضلا عن مشاركته الوزارة اختصاصاتها. ذلك أن التصور الوارد في هذا الفصل لعمل المؤسسات، شأنه شأن الفصل الذي سبقه الخاص بالسلطة التشريعية، يقوم على اشتراك أكثر من طرف في كل عمل من أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية. 

وإذا كان الأمر في ما يخص السلطة التشريعية واقعا في حدود المعقول والمألوف في النظام البرلماني، مع بعض سمات النظام الرئاسي، فإنه في باب السلطة التنفيذية دستور لنظام رئاسي في حقيقته، يقوده رئيس مكبل بقيود شديدة من الحكومة والبرلمان. وإذا كان تنظيم السلطة، والتنفيذية تحديداً، هو لب الدستور فإن لدينا هنا آلة حسنة التصميم من حيث التكبيل المتبادل للسلطات الرئاسية والتنفيذية والتشريعية، تراعي الشكوك التاريخية العميقة للمصريين في حكامهم، ولكنها غير قابلة للعمل بشكل مرضٍ إلا اذا افترضنا توافقاً وتناغماً بين هذه الأطراف كافة، توافق يتعذر وقوعه إلا إذا كان هؤلاء جميعاً ينتمون إلى تيار واحد، ويؤدي غيابه عملياً إلى شلل الدولة!

«سيد قراره»

تنظم مواد الدستور المعنية بـ«السلطات العامة» الأحكام المشتركة لجناحي السلطة التشريعية، ومنها أن العضو ينوب عن الشعب بأسره ولا تقيد نيابته بقيد أو شرط (م 85)، واختصاص محكمة النقض بالفصل في صحة العضوية، على أن يقدم لها الطعن خلال ثلاثين يوماً من الانتخاب وتفصل فيه خلال ستين يوماً (م 88) على خلاف ما كان مقرراً بنص المادة (93) من الدستور السابق من اختصاص المجلس بالفصل في صحة عضوية أعضائه، بعد تحقيق تجريه محكمة النقض. وهو أسلوب، على الرغم من الأخذ به في بعض الديمقراطيات الراسخة، (حتى لا تسود السلطة القضائية على التنفيذية)، أُسيء استخدامه في البرلمان المصري، فكانت محكمة النقض تنتهي إلى بطلان أو انتخاب العضو، والمجلس يقرر صحة العضوية تحت زعم أن "المجلس سيد قراره". والأصوب أن يكون الفصل في صحة العضوية للمحكمة الدستورية، وهو ما ذهبت إليه لجنة المستشار طارق البشري التي أعدت التعديلات المستفتى عليها في 19/ 3/ 2011 وتم العدول عنه بعد اعتراض محكمة النقض على نزع ذلك الاختصاص منها.

back to top