مواجهة بين نخبة المجتمع وعامة الشعب في مصر

نشر في 19-12-2012
آخر تحديث 19-12-2012 | 00:01
ربما كانت معظم الاضطرابات الحاصلة في مصر حتمية، إذ يشهد أكثر البلدان اكتظاظاً في العالم العربي انتقالاً من عقود الحكم الاستبدادي إلى غياب شبه تام لأي نظام حكم تمهيداً لنشوء نظام جديد لم تتحدد معالمه بعد.
 ذي ستار بسبب الانقسامات العميقة بين الإسلاميين والعلمانيين، أصبحت مصر على حافة كارثة اقتصادية واجتماعية، لكن هذا الواقع هو جزء من الحقيقة فقط. ثمة مواجهات كامنة أخرى: بين المدنيين والجيش، وبين الديمقراطيين والاستبداديين، وبين الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، وبين المستفيدين من النظام القديم والشخصيات النافذة الجديدة.

شهدت الأشهر التي تلت إسقاط حسني مبارك عشرات التطورات المذهلة، لكن تفسر ثلاثة تطورات منها بقية الأحداث.

• لم تنسحب القوات المسلحة (وهي القوة الحقيقية التي تدعم الرؤساء منذ الخمسينيات) قبل شهر أغسطس ولم يكن انسحابها كاملاً. فهي لا تزال تسيطر على أجزاء من الحكم وعلى ثلث الاقتصاد عبر مؤسسات القطاع العام (بالتالي، هي تملك شبكة رعاية واسعة)

• فاز الإسلاميون بكل وضوح في سبعة استحقاقات انتخابية (استفتاء وجولتان لانتخاب مجلسَي الشعب والشورى وجولتان من السباق الرئاسي). كانت جماعة "الإخوان المسلمين" الفائز الأكبر يليها السلفيون المحافظون.

• يواجه ذلك المعسكر فئة تُعرَف باسم "غير الإسلاميين". تشمل هذه الفئة الشباب الذين أحدثوا الثورة، والأقباط، والعلمانيين ( بعضهم المسلمون المتدينون) الذين لا يثقون برجال الدين لإدارة الحكم، وعلمانيون آخرون لا يتقبلون نفوذ المتدينين، والرأسماليون الذين يعيشون على المحسوبيات، والمدنيون الفاسدون، وأعضاء السلطة القضائية وغيرهم من فلول النظام القديم.

يترافق هذا الوضع مع نوع آخر من الانقسام. تشعر النخب المثقفة والمتمركزة عموماً في المدن بالذعر بسبب الزيادة المفاجئة في نفوذ الجاهلين الريفيين على المستويين السياسي والاجتماعي. يعتبر الكثيرون أن هذا النوع من الناخبين لا يمكن أن يكون مؤهلاً للتصويت على الدستور أو مسائل مهمة أخرى لأن عدداً كبيراً منهم قد ينصاع لأوامر رجال الدين.

بذلت الجماعات غير الإسلامية المختلفة قصارى جهدها لمحاولة تخريب مبادرات المنتخَبين حديثاً والمؤسسات التي يسيطرون عليها.

انقلبت تلك الجماعات على الهيئة البرلمانية المكلفة إعداد الدستور الجديد وتخلت عن الهيئة الثانية مع أنها حصلت على نصف المقاعد فيها (رغم الفكرة التقليدية القائلة إن الهيئات البرلمانية تعكس تشكيلة الجمعية). كذلك، عمدت في الآونة الأخيرة إلى انتقاد الدستور الجديد واعتبرت أن الإسلاميين وحدهم أعدّوه، لكن هذا الدستور صدر طبعاً بعد أن قررت تلك الجماعات الانسحاب.

أما الفضيحة الكبرى، فتتعلق بقرار المحاكم حل مجلس الشعب بسبب مسائل تقنية واهية.

على صعيد آخر، جرّد الجيش الرئيس المنتخَب محمد مرسي من صلاحياته، وسخرت المعارضة من فوزه بنسبة 52% من الأصوات وشددت على أنه "انتصار بفارق ضئيل" (لكنه كان أكبر من الفارق الذي فاز به باراك أوباما!).

أصر النائب العام (أحد مرشحي مبارك) على إعاقة محاكمة زملاء سابقين له بتهمة الفساد واستغلال السلطة.

صدر مرسوم مرسي في 22 نوفمبر وهو يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، ولكنه ينجم عن مخاوف من أن تعيق المحاكم مسار الدستور وتحل مجلس الشورى.

منذ ذلك الحين، تخلى مرسي عن بعض الصلاحيات، ولكنه لم يسحب قراره الشهير بإقالة النائب العام، تستمر إعادة محاكمة المسؤولين السابقين حتى الآن، ويستمر أيضاً الاستفتاء على الدستور خلال هذين الأسبوعين.

عرض الرئيس المصري التفاوض حول التعديلات الدستورية مع المعارضة لكن لم يحصل هذا العرض على اهتمام الفريق الآخر.

أراد البعض مقاطعة الاستفتاء بينما دعا البعض الآخر إلى التصويت لرفض الدستور، لو كانت مبادئ المعارضة موحدة، لكانت مصداقيتها أوسع بين الناخبين.

الدستور موضوع شائك مع أنه لا يختلف كثيراً عن دستور أنور السادات في عام 1971.

تنص مبادئ "الإخوان" على الآتي: "الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". تحكم الشريعة أصلاً العائلات ومسائل الملكية، لكن تربط المسودة الجديدة عقيدة الشريعة بـ"الإسلام السنّي" بحسب تفسير "أغلبية العلماء المسلمين"، ما يثير الخوف من احتمال شرح الشريعة بطرق مختلفة.

تحصر المسودة حرية الدين ضمن "الأديان التوحيدية"، ما يعني أن المنتمين إلى الديانة الهندوسية أو السيخية أو الزرادشتية وغيرها لا يملكون أي حقوق. لم يتضمن الدستور القديم هذا النوع من الإقصاء.

في ما يخص حقوق المرأة، تشمل المسودة عبارات مبهمة مثل الدستور القديم. هي تنص على أن الدولة يجب "أن تضمن التنسيق بين واجبات المرأة وعملها في القطاع العام"، لكن في الوقت نفسه ثمة إشارة إلى الصيغة القديمة التي تعتبر النساء متساويات "من دون انتهاك قواعد الفقه الإسلامي". تعارض نساء محجبات كثيرات هذه المسودة الجديدة.

تمنح المسودة صلاحيات كثيرة للجيش، أبرزها صفقة تضمن بقاء الجيش خارج السياسة أو مساعدة "الإخوان المسلمين".

تحتاج المجتمعات التي تخوض عمليات انتقالية إلى شخص مثل نيلسون مانديلا. فشل مرسي في أداء دور الرئيس التصالحي، بل إنه عزز الانقسام بين المصريين، لكن يجب ألا ننسى الآليات غير الديمقراطية من جانب المعارضة.

ربما كانت معظم الاضطرابات الحاصلة حتمية، إذ يشهد أكثر البلدان اكتظاظاً في العالم العربي انتقالاً من عقود الحكم الاستبدادي إلى غياب شبه تام لأي نظام حكم تمهيداً لنشوء نظام جديد لم تتحدد معالمه بعد. لكن بدأت ملامح الديمقراطية تظهر ولو بطريقة فوضوية، ما يُجبر مختلف اللاعبين (بدءاً من الرئيس) على الرضوخ لمطالب الشعب يوماً بعد يوم.

إذا تمكنت مصر من تخطي هذه الاضطرابات، فلا شك أنها ستزداد نفوذاً وستصبح قوة يُحسب لها ألف حساب.

* Haroon Siddiqui

back to top