الوصاية الفكرية تنعش الحياة الثقافية!

نشر في 18-06-2011
آخر تحديث 18-06-2011 | 00:00
No Image Caption
 يوسف محمد الوافي ما إن يُولد كتاب جديد من رحم عقل مؤلفه إلى عالم الحياة الثقافية، حتى يفاجأ بأشخاص نصبوا أنفسهم كأطباء يعاينون محتواه بحثاً عن أي "فيروس" قد يهدد الحياة الفكرية السوية بحسب رأيهم، وإذا كان بإمكان الطبيب البشري تمييز أي "فيروس" ضار من خلال دراسة تفاصيله المخبرية، فإنه بإمكان أي مثقف تحليل محتوى أي كتاب جديد من خلال وضعه تحت مجهر القراءة المتأنية.

والكتب بشكل عام يعتري بعضها ما يعتري أي كائن حي من أمراض متفاوتة في الضرر والخطورة، لذلك لا عيب في رفض أفكار بعض محتوياتها والتحدث عن أضرارها، فالنظرة الثقافية تجاه أي أمر ما حق مكفول للمثقف تماماً كما هي النظرة الطبية حق مكفول للطبيب، أما أن يضع الطبيب مبضعه على جسد إنسان ما دون موافقته فإن تلك تعد جناية لا يبررها أي نظام طبي مهما كانت حال مرض ذلك الإنسان، ولا أقسى على المؤلف من أن يُوضع المبضع الرقابي على "جنينه الفكري".

لذلك لا جدال في أن المؤلف ينتابه كثير من الحزن تجاه من يوصون بمنع ظهور أفكارهم، ولا جدال أيضاً في أن متتبعي الساحة الثقافية ومحبيها يرفضون ذلك المبدأ الإقصائي، والذي يرون أنه ممارسة للوصاية الفكرية على عقول المجتمع، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه الوصاية الفكرية تُنعش الساحة الفكرية وتثريها، فما أسهل من أن تروج للفكرة عن طريق منعها، ففي السعودية بشكل خاص لن تتفاجأ إذا علمت أن الكتب الممنوعة تعد من أكثر الكتب قراءة، لأن صوت بكاء وصراخ "جنين المؤلف الفكري" من عمل مبضع الرقيب سيملأ أركان الحياة الثقافية، وسيحرك فضول حتى غير المهتمين كثيراً بالحالة الثقافية للاطلاع على تفاصيلها، ولعل معرض الكتاب الدولي بالرياض قبل أشهر يعزز من صحة واقعية هذا الأمر، إذ ساهمت أصوات المعارضين لسماح دخول بعض الكتب في نفاد جميع نسخها من الأيام الأولى في المعرض! وكم أضحكني أحدهم عندما قال لي إنه نسخ قائمه إلكترونية، تحذر من أسماء بعض الكتب في المعرض، لا لتجنبها بل لجعلها من أولويات مقتنياته.

يجب أن نتعامل مع الكتب على أساس أنها كائنات بشرية فهي في الأصل تحمل روح كاتبها، ويجب ألا ننكر كذلك في أن بعض أفكار الكتب تحمل بداخلها مثلما تحمل بعض الأجساد البشرية في دواخلها أمراضا خبيثة، لكنني لم أسمع بشخص على مر التاريخ يوصي بقتل المصابين بأمراض موبوءة سوى هتلر فقط.

ولأننا لا نريد ثقافة "نازية" فلا أنجع من التعامل مع ما نرى من أفكار مريضة سوى بنشر التوعية وإنتاج اللقاحات الفكرية المضادة، وصحيح أن بعض الأفكار المريضة قد تصيبنا بصدمة عنيفة، لكن قراءتها ستجعلنا أكثر يقظة وإدراكا لمكمن الخلل في عقول أصحابها أو في عقولنا أحياناً، وفي الأخير يبقى العاقل خصيم نفسه!

* مكة المكرمة - السعودية.

back to top