الطريد

نشر في 13-08-2010
آخر تحديث 13-08-2010 | 00:01
 أحمد مطر اشتد هطول المطر، لحظة انعطفت من الشارع العام في طريقي إلى منزلي على الناحية الأخرى.

وبينما كنت أغذ الخطى، كنت أسمع من ورائي خفق أقدام راكضة، وبرغم إسراعي في المسير، كانت أصداؤها تعلو وتقترب، ثم ما لبثت أن خالطها صوت واهن متوسل: «انتظرني... أرجوك».

توقفت ملتفتاً، فرأيت، على مسافة بضع ياردات، شيخاً في أواخر الستينيات، يلوح راكضاً من وراء شباك القطر الهاطل، مكرراً دعوته لي بالانتظار على الرغم من توقفي.

دخل تحت مظلتي لاهثاً، وزفر وهو ينفض معطفه الأسود الثقيل: «شكرا، شكرا، أنت صديق طيب».

هززت رأسي مبتسماً، وقلت له: «مرحباً بك»، ثم واصلت المسير ببطء، خشية أن أقطع أنفاسه، وسار ملتصقاً بي مثل طفل.

كان ذا وجه صغير باهت، تعلوه خصل متباعدة من الشعر الأبيض المنساب فوق قشرة رأسه الحمراء اللامعة، إذعانا للماء الغامر، غير أن عينيه الخضراوتين كانتا تسطعان بالبريق.

ظل صامتاً حتى انحدرت نحو الطريق المؤدي إلى منزلي، وعندئذ بدا لي أن أسأله: في أي ناحية بيتك؟

صفع الهواء وقال بلا مبالاة: ليس مهماً.

وقبل أن أعبر عن استغرابي، سدد إلي ابتسامة عذبة، أردفها بقوله: طقس جميل... أليس كذلك؟

زالت دهشتي، فقد بدا لي الرجل على جانب كبير من روح الفكاهة، فابتسمت له بدوري قائلا: بالتأكيد، ليس هناك طقس أجمل منه، المؤسف أننا لا نستطيع أن نحتفظ بقطعة منه لاستعمالها في المناسبات السعيدة.

لم يضحك، ولم يبتسم. بل نصب وجهه إلى الأمام بجدية عسكري منتظم في مسيرة.

نظرت إليه بطرف عيني، وقد داخلني الاستغراب ثانية، فالتفت إلي، وسارع إلى تغطيس رأسه في معطفه، ثم حضن زنديه مقشعرا، ونفخ بصوت متقطع: برررررر... ياله من برد!

وبسرعة أنزل يديه، وانهمك في خلع معطفه، ثم طواه حول ذراعي أنا، وزفر بارتياح: هذا أفضل.

وراح يحرك ذراعيه كجناحين، وقد بدت ضآلة جسده واضحة بعد زوال المعطف، حيث لم يكن فوق جسده أكثر من صدرية رقيقة.

استبد بي الهلع من جراء هذه الحركة العجيبة، وأدركت متأخراً أنني في ورطة، وأن وقتاً طويلاً وثقيلاً سيمر قبل أن أجد طريقة للخلاص.

قلت في نفسي: «لا سبيل إلى الأناة في التفكير... داوها بالتي كانت هي الداء».

وعلى نحو عاجل ناولته المظلة، فقبض عليها بلا تردد، ثم نفضت معطفه ووضعته فوق كتفيه قائلا: خذ معطفي... سيكون الأمر أفضل.

وأخذت المظلة منه، وساعدته باليد الأخرى على ارتداء معطفه من جديد.

أغمض عينيه، وهنف بامتنان: أوه... رائع... أنت صديق طيب.

كان لابد من التصرف بسرعة... عاجلته متسائلا: لم تقل لي أين بيتك...

قال: لا أتذكر

ألحفت عليه: من أي منطقة أنت؟

قال: لا أدري

كانت عقدة الأنشوطة قد استحكمت حول عنقي... لا ريب أن الرجل فاقد الذاكرة قلت له بهدوء، محاولا أن أصبغ صوتي بأجمل ألوان المودة... إذا لم تستطع التذكر يا عزيزي، فليس أمامنا إلا الاتصال بالشرطة... حاول أن تتذكر.

توقف وشد ذراعي: لحظة... دعني أخمن.

قلت له وقد فرغ صبري: تخمن ماذا يا رجل؟ المرء لا يصل الى منزله بالتخمين.

صاح جذلاً: خمنت... لا تقل لا. أنت فرنسي.. أليس كذلك؟

ارتفعت الأنشوطة بي شبرا عن الأرض. لقد بدأت حفلة شنقي.

هززت رأسي قانطاً، فهتف وهو يتقافز: إيطالي... هذا آخر ما عندي. لا تقل لا.

إسباني، نعم اسباني... لا تقل لا... هذا آخر ما عندي.

قلت له ببرود ولوعة: لا.

بادر الى السير وهو يحك رأسه كمن يفتش عن شيء ضائع، ثم صاح محتجاً: لا؟ ماذا تكون بحق جهنم؟ هذا هو كل العالم.

استوقفته وأنا اضحك برغم المحنة: كل العالم؟ ماذا تعرف عن كل العالم؟ أنت لا تعرف حتى أين بيتك!

تغصن وجهه واحتقن، وبدا كأنه على وشك الشروع في البكاء: عليك أن تنقذني. إنهم يريدون قتلي.

تساءلت بمرارة: من هؤلاء الذين يريدون قتلك؟

قال: لا أدري... أعتقد أنهم عصابة.

عدت أسأله: وماذا فعلت لكي يقتلوك؟

قال بعجلة: لم أفعل شيئاً: إنهم يقتلون بلا سبب. عندما قتلوني في المرة السابقة لم أكن قد فعلت شيئاً.

قلت له ضجراً: اسمع... أنا متعب جداً، وعلي أن أصل إلى بيتي بسرعة. إذا كنت لا تتذكر أين بيتك فسأتصل بالشرطة، وسيكون في حضورهم فرصة أيضا لإنقاذك من أيدي العصابة.

قفز صائحاً: أميركي... أنت أميركي. هذا آخر ما عندي.

لطمته بصوت كاللعنة: وهذا آخر ما أتمناه.

تأوه منكسراً: أووه... لماذا؟

قلت: لأن أميركا تريد قتلي.

تساءل بجد: حقاً؟! ماذا فعلت؟

قلت: لم أفعل شيئاً. إنها مثل العصابة تطاردك... تقتل بلا سبب.

بدأت حدة المطر تتكسر، ثم ما لبث أن أصبح رذاذاً. وعلى رغم اتساع الفضاء من حولي، كنت أشعر بأني معتقل في برميل مختوم.

وبينما أنا أفكر، يائساً، في طريقة للخروج من هذا المأزق، عصفت على جانب الرصيف سيارة كالطلقة، ثم أطلقت عواء طويلا وحادا تحت وطأة كوابحها.

صاحت فتاة من نافذة السيارة: «ها هو ذا...»، ثم أسرعت هي والسائق الشاب إلى النزول، واندفعا نحونا.

زفرت الفتاة ما بين الأسى والاعتذار: أرجو ألا يكون قد ازعجك كثيراً.

وأمسكت العجوز من ذراعه بلطف، في ما بسط الشاب ذراعه فوق كتفيه بحنان، وراحا يحاولان دفعه نحو باب السيارة المفتوح، وهو يصرخ متشبثاً بي: «العصابة... العصابة».

هتفت الفتاة بحزن: كفى يا أبي. لقد أتعبتني اليوم بما يكفي.

ثم التفتت إلي معتذرة: آسفة. لم أغفل عنه سوى لحظة واحدة أثناء تسوقنا، فإذا به قد تلاشى... وها هو ذا.

دفعاه داخل السيارة، وأغلقا الباب. وحين بدأت السيارة تتحرك، أخرج رأسه من النافذة وقد احتقن وجهه بالغضب، وسدد اصبعه نحوي صارخاً: المجرم. لقد أراد قتلي. أقسم لكما، لقد أراد قتلي.

back to top