هذه النجف التي توشوشني!

نشر في 14-08-2009
آخر تحديث 14-08-2009 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان كنت أحرّض السيد هاني فحص باستمرار على كتابة النجف التي في داخله، ولعلّي كنت وأنا أستمع إليه، كأنني أطالب نفسي لإخراج النجف التي في داخلي، بصورتها المرئية وصورتها اللامرئية، إلى حيث المعنى والدلالة. هكذا كنت أشعر أن النجف متغلغلة في داخلي، لكأنني عاشق لا يروي ظمأه إلى معشوقته شيء، في فضاء من الحب واللانهايات الأبدية.

العلاقة بيني وبين النجف يتعذّر تفسيرها، هي علاقة أبعد مما تراه العين أو تتخيّله، هي علاقة ترتبط بالذكرى والذاكرة والرغبة المستمرة والصيرورة والحلم المتصاعد، لذلك ظلّت النجف تسكن مخيلتي، كنص شامل أقرب إلى سبيكة ذهبية وقصيدة متواصلة الابداع ولغة غير قابلة للانقطاع.

الحوار بيني وبين النجف يتواصل منذ عقود من الزمان، بوتيرة مستمرة تارة، ومنقطعة تارة اخرى، لكن هذا الحوار العفوي لم يكن بلا نظام، أنه يأتي أحياناً مكثفاً بصور متناسقة، وأحياناً أخرى مفاجئاً بصور متنافرة، لكنها منسجمة فكراً ولوناً، متجانسة حتى باختلافها وتنوّع طيفها الأدبي والفني والاجتماعي.

كنت باستمرار أتحدث مع النجف التي أعرفها، أتحدث معها بصفة الحضور رغم الغياب، كنت أريدها دائماً حاضرة، حتى لو كانت على صورة برقٍ أو شعاعٍ، بإيحاء وإيقاع سرعان ما أدرك كنهه، بإشاراتها الغامضة المحببة، اللذيذة.

ألتجئ إلى النجف كنص أدبي وقراءة جدلية، لقبابها الذهبية، للحكمة والفلسفة المزدانة، لصوت المواكب الهادرة، والنساء الجميلات، والمناشير السرّية والجنائز المستوردة والعمائم المصدّرة، حسب الشاعر أحمد الصافي النجفي. بسرعة أستطيع أن أعرف الباطن من الظاهر والخفي من المكشوف والغامض من الواضح، حين تلتبس فيها بعض الأمور ويستشكل الفكر والدين والجمال والأمل.

متعتان للجمال في النجف، متعة العقل ومتعة الشعر، حيث الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق، حسب تعبير السيد مصطفى جمال الدين، والانغلاق الظاهري، يحمل تحت ثيابه انفتاحاً وتطلعاً للتغيير والتجديد وحركة تمرد وانعتاق وتوق للحرية بلا حدود، ولعل هذا التجلّي ليس سوى ما تختزنه النجف من طاقة إبداعية عقلية خلاّقة، ووهج شعري متدفق مثل شلال!!

لا يمكنني أن أغلق باب النجف في رأسي فقد ظلّت مشرعة تدخلها الريح من كل الاتجاهات، عند كل قراءة نقدية وضعية، تتجاوز الآني إلى المستقبلي، والماضي إلى الحاضر. وهي قراءة أبعد من حدود السلطة والسياسة بمعناها الديني-الثيوقراطي والآيديولوجي. ويخطئ من يتوهم أن بإمكانه حصر النجف بقالب أو مجموعة أو فئة أو طائفة، فالنجف هذا المعهد الدراسي المفتوح، ظلّت تتوالد فيها منصّات الفقه والفكر والفلسفة واللغة والأدب والشعر بشكل خاص أكثر من ألف عام، منذ أن جاءها الإمام الطوسي هارباً من بغداد العام 449 هجرية، حيث نظّم حوزتها العلمية وأضفى على منهجها الدراسي حركية ودينامية، احتفظت بها رغم محاولات تقييدها وتجميدها أو حبسها بأطر معينة.

وقد تركت المدرسة النجفية تأثيراتها العلمية والثقافية والأدبية على مختلف الأوساط والحقول والفئات، وكانت ملتقى الأعراق والقوميات، فيها تتفاعل الثقافات وتتداخل الحضارات، في إطار إنساني وبُعد إسلامي وهوية عربية، وفيها يتعايش المتدين وغير المتديّن، اليساري واليميني، ولكل رافده ولونه وطيفه الذي أضفى على النجف هذه الفسيفساء المتحدة- المتناسقة- المختلفة في إطار مؤتلف.

علّمتني هذه النجف كيف أوالف بين الحجر والشجر، وبين الماء والهواء، وبين المادة والخيال، وبين الشعر والواقع، فصرت أشعر أنني أولد فيها من جديد، بل كل يوم، إنها تعيد خلقي، وكأنني موجود بفضلها، أي مستمر بواسطة ذلك الحبل السري الذي مازلت مرتبطا به.

لا أنظر إلى النجف كماض، بقدر ما هي مستقبل، حتى إن كان الحاضر ملتبساً، حيث تتشوّش المرآة وتضطرب الرؤى وتتلبّد الغيوم، لكن النجف استعصت وظلّت مكابرة حتى كادت صداقتها مع التمرد تصبح تاريخية.

هذه النجف التي تُعيدُني إلى طفولتي، لاتزال تجرّني إلى الأمام وتحركني باتجاه القادم، المفاجئ، الجديد، الذي كان وجهاً من وجوهها المُدهشة، المفعمة بالحيوية!

لعلي كلّما ازددت غوصاً في النجف، ازددت قدرة على التواصل مع الآخر، وقدرة على تفهم وقبول التعايش، وحين تكون الهوية من القوة والفاعلية تكون مفتوحة وحيوية وقابلة على التلاقح مع الغير.

هذه النجف ظلّت تفتح ذراعيها مثل البحر، للفكر الجديد، ولحرية الجدل بلا قيود، للبشر الأحياء مثلما للاموات، حين يسكنون في مقبرة «الغري»- وادي السلام- التي لا تعيد أحداً، وفي فضاء فضي مفتوح وسراب لا متناه، فليس للصحراء من حدود.

لا أنظر إلى النجف كمدينة أو مكان أو جغرافيا، لكنني أراها أفقاً يعيد خلق نفسه باستمرار، وهي صيرورة تنتج نفسها وتبتكر العلائق والروابط مع الآخر، بحب متبادل وبثقة بالنفس وقدرة على إثبات «الأنا» من خلال الآخر أيضاً، بالتسامح في أحيان كثيرة وبغيره حيناً آخر عندما تقتضي المواجهة والاقتحام.

بيني وبين النجف يحدث نوعا من الفراغ أحياناً، أو قلْ مسافة لا أحاول ردمها، إذ إنني أشعر برغبة غامضة على إبقائها، وهي رغبة ناجمة في عدم التطابق أو التماهي، فالمسافة تتجسد أحياناً بين الإنسان وذاته، وإذا ما التقت ذات الإنسان مع روحه تتحقق تلك الكينونة الرمزية الخاصة، ليكون الإنسان مائزاً رائزاً، هو ذاته التي لا تشبه شيئاً آخر، عندها تسهل عليه العلاقة مع الآخر، وإذا كانت المسافة تتمثل في شيء من البعد المكاني، فهي لا تعني الابتعاد الزماني-الرمزي، وإذا كانت في المسافة ثمة تباعد، فهي ذاتها ما يجمّع وما يوحّد، حيث تتمفصل في هوية التكامل الجامعة، لكنها متنوعة وكثيرة، وكأنها حسب أدونيس «تتعدد فيما تتوحد وتتجمع فيما تتفرد» .

النجف توشوشني... أسمع همسها وأسئلتها الطافحة «أناها» وكينونتها وتعلقها وتفاعلها مع الآخر، تخالقها وابتكارها مثل الموسيقى ذات الأصوات المتناغمة، المختلفة، المؤتلفة، كأن كل صوت جاء من وترٍ له مكانه الذي لن يتحقق التناسق (الهارموني) إلاّ بوجوده، ومن دونه سيكون العزف نشازاً.

لا يمكن إلغاء تعددية النجف، فلن تكون نجفاً بدونها، المعرفة تعددية والعلم، تعددي والشعر تعددي والفلسفة تعددية والفن تعددي والسياسة تعددية، والانسان تعددي، والذوق والجمال والأمل تعددي أيضاً.

في مدرسة «الأخوند» كانت ثلة من المتمردين الأُوَل: باضت بيضتها بعد المشروطة وصراعها مع المستبدّة، في «معقل الاحرار» الوكر السرّي بلغة السياسة والمحفل الفكري بلغة الثقافة، كانت حلقة تمرد، ضمت سعيد كمال الدين وعباس الخليلي وسعد صالح وعلي الدشتي وأحمد الصافي النجفي، ولعلها هي البؤرة الاولى للتمرد في القرن الماضي، وكان أحد رواد المدرسة الفقهية النجفية محمد سعيد الحبوبي، الشاعر والثائر والعاشق للجمال والحرية، ثم جاء جيل التمرد فشمل إضافة إلى أسماء الاعلام في أعلاه، الجواهري وآل الخليلي، عباس وجعفر وبعدهما عبدالغني، وكانت هذه البؤرة تجمع حولها: حسين مروة ولاحقاً محمد شرارة وآخرين، هؤلاء الذين انتقلوا من الفقه الديني إلى الفكر والفلسفة، ومن الإيمانية العقائدية التبشيرية المستقرة، إلى التساؤلية العلمانية التفكيرية النقدية القلقة.

ولم تقتصر المسألة على النخب الفكرية التي تجاوزت حدود المدرسة الدينية التقليدية التي طلّقتها متجهة إلى مدرسة أخرى، بل شهدت المدرسة الدينية ذاتها، رغبة في التجديد ومحاولة في نفض الغبار الذي علق بالفكر الاسلامي، لاسيما هيمنة المدرسة التقليدية التي تركت المعاني وجوهر الدين، لتتمسك ببعض الشكليات وتقتصر على النقل وتُهمل العقل.

وشملت المدرسة التجديدية السيد محمد باقر الصدر الذي أسس لتيار إسلامي فكري جديد، رغم أنه لم يستكمل تطوره، الذي انقطع حين اختفى قسرياً العام 1980 وهو في أوج عطائه، وكذلك محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ومحمد بحر العلوم ومصطفى جمال الدين وآخرين، الذين كانوا يمثلون الحلقة الاولى في الجيل الثاني للمجددين من داخل المدرسة الدينية.

لا يمكن اختزال النجف بفريق سياسي أو عقائدي، علماني أو اسلامي، فهي مثّلت الموزاييك كلّه بجميع ألوانه وصوره، هي معقل ثورة العشرين ورحابة فكر الحبوبي وعلي الشرقي وعبدالكريم الجزائري وأحمد الصافي النجفي وسعد صالح والجواهري وسيد ابو الحسن وكاشف الغطاء ومحمد رضا الشبيبي وحسين الشبيبي وسلام عادل ومحمد باقر الصدر وموسى صبّار وعبد الحسين أبو شبع وعلي الصراف، وبطولة نجم البقال والفتى الشجاع محمد موسى، هي مدينة الجدل والحوار، والتعايش والمشترك الانساني.

للنجف سلطة عليّ، سلطة عليا، أظنّها سلطة الحق، تواجهني بالقوة الناعمة، وليست تلك السلطة سوى المعرفة خارج حدود اللاهوت ومعه أحياناً، لكأني بهذه العلاقة الروحية أردد ما ذهب اليه المتنبي حين يتحدث عن الوطن، المنبع الاول، الذي «ينبت العزّ»، وعزّ النجف في حريتها، في معرفتها، في كرامتها، في تعددها، في كونها مدينة خارج حدود الانصياع لهذه اللافتة أو تلك، انها تمانع وترفض وتتمرد، لأنها تعرف كم لديها من مخزون للضوء لا يمكن حجبه في جميع الأحوال والأهوال...

ضوء النجف يفيض ليشرك الآخر ويشاركه، القريب والبعيد، بما فيه «الغريب»... إنه ضوء المعرفة المتجدد، دون حدود أو توقف ، أسمع صوتاً مثل الرعد أحياناً يأتيني من بعيد، ويظل صداه في أذني يحضر ويغيب، لكنه لا ينقطع، هادراً أو خفيضاً، يوشوشني كلاماً كأنه استحضار لصوت النفّري المتصوّف الكبير وهو ما انفكّ يلاحقني:

إني أحدثك لترى

فإن رأيت

فلا حديث!

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top