الديمقراطية... وأدوات نقضها!

نشر في 12-08-2008
آخر تحديث 12-08-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ تختلف الديمقراطية التي تنشدها مجتمعاتنا العربية عن تلك التي تنشدها الأنظمة السياسية الحاكمة، وبالطبع عن تلك التي ينشدها الخارج الإقليمي والدولي، على أن مناشدة مجتمع ما للديمقراطية كقيمة، تختلف بالطبع عن أهداف مجتمع آخر، أو أن هناك مجتمعات أخرى ليست تنشدها كقيمة أو كأسلوب تداولي للسلطة أو كنمط حياة، ما لم تترافق أو تستقيم مع قيم العدالة والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان؛ كناظم قيَمي أو مرجعي، حيث تتشكل الديمقراطية كثقافة قيمية، وهي المحور أو القلب الناظم لحياة المجتمع/الدولة، وإلا... ففي غيابها تفقد الثقافة المؤسسة مبررات وأركان وقواعد وجودها.

من هنا... فإن أخطر الديمقراطيات؛ تلك التي أسست وتؤسس لداخلها، قيمة ثقافية ناظمة لعقد سياسي واجتماعي ووطني، كنوع من استخدامها أداة وظيفية لخدمة أهداف كولونيالية (استعمارية)، وحين تستخدم الديمقراطية داخليا أداتيا أو كوظيفة عدائية أو معادية لحق الشعوب في تقرير المصير، وتشريع وقوننة نهب ثرواتها عبر الاستيلاء أو الاحتلال أو المراوغة، أو أي من أساليب النهب المنظم لثروات المستعمرات وأشباهها، أو البلدان التي تتعرض للغزو والاحتلال- العراق نموذجاً.

حتى وهي «تستدعي» الديمقراطية إلى العراق المحتل، لم تلتزم الديمقراطية الكولونيالية الأميركية أياً من معايير الديمقراطية الناضجة، أو كان بإمكانها أن «تستدعي» ثقافة مفترضة أو محايثة للديمقراطية بالأساس، كقيمة أو قيم تتبلور داخل المجتمعات المحلية؛ نتاجا لمديات التطور الذاتي تطلبا لحدود وقدرة التكيف، وهضم أو التأقلم مع إمكانات ومقدرة مثل تلك المجتمعات على استيعاب مجريات آليات انتخاب ديمقراطية؛ تنشأ توا من «عدم» ما زرعه النظام الشمولي التسلطي في وطن وجد دائما في قلب النزوع الاستبدادي؛ ليس لنظامه السياسي فحسب، بل لنظام بطركي عشائري مهيمن؛ حتى على ملل ونحل الطوائف والمذاهب التي تقاسمت حصص ومغانم السلطة البازغة في ظل الاحتلال، فكان قانون بريمر في المحاصصة الطائفية والمذهبية والإثنية، أبرز ما يمكن اللجوء إليه من قوانين وأد الديمقراطية قبل أن تولد، وقبل أن يولد خيرها أو يبزغ فجرها.

***

إسرائيل... ككل الكولونياليات الاستعمارية الاستيطانية، تجمّع أو كيان يجري نسخ تجارب وخبرات الديمقراطيات الغربية فيه، ولكن باتجاهات داخلية، أي بناء ديمقراطية داخلية عنصرية، لا وجود ولا إمكان أصلا لوجود نزعة ديمقراطية تجاه الآخر، أي الفلسطيني/العربي الذي ينبغي له أن يتحمل نزوع «الضحية» إلى الانتقام من ضحية أخرى. وذلك كله تحت مزعم أو مزاعم (حتى لا تحدث المحرقة مرة أخرى) أي المحرقة النازية، وإذ بكارثة أو كوارث دورية ربما فاقت المحرقة، يواصلها ذاك الكيان «الديمقراطي في داخله» الفاشي بحق الآخر- الضحية التي لا ذنب لها سوى أنها صدف ووجدت فوق أرض يزعم أنها مسرح الرواية التوراتية، ولهذا لا بد من «تحريرها» من «مغتصبيها» وتحقيق «الوعد التوراتي» المزعوم، الزاعم عودته إلى ما يسميها «أرض الميعاد»: الأرض المملوءة شعبا؛ شعبها وبشهادة الوثيقة التوراتية ذاتها في نصوصها المعروفة، فيما كان الصهاينة الأوائل يزعمون أنها العودة إلى الأرض الموعودة، الموقوفة من قبل الإله لـ«شعب مختار»، تلك العودة التي حملت شعارا زائفا: «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»!

***

ليس من منطق أو من انسجام؛ القول بحراسة المؤسسة العسكرية للديمقراطية أو للنظام الديمقراطي، وإلا كنا في مواجهة عطب تاريخي لا تستقيم فيه الديمقراطية ولا وجودها من الأساس، في ظل هيمنة عسكريتارية على السياسة، أو تغييبها، أو هيمنة العسكر على النظام السياسي المفترض أن يكون حاكما، لا خاضعا في حكمه لرضا وأهواء المؤسسة العسكرية، على ما هي حال تركيا وموريتانيا اليوم؛ كأسطع ما يقوم الدليل على «صناعة السلطة» من قبل العسكر، وفي هذا إلغاء لروح الديمقراطية ومصادرة لجوهرها، تغييبا للسياسة، ومن قبل مصادرة قوة المجتمع والهيمنة عليه، وإشاعة الخوف والترهيب والقمع الممنهج والمنظم داخله، وإلا فأين هو دور المجتمع وقواه المفترض أنها منظمة؟ بل أين دور قوى المجتمع المدني، وأي دور لها في حماية الديمقراطية والقيم الثقافية الحارسة؟

***

التمذهب الديني أو السياسوي، علاوة على كونه يعيش حالة كره للديمقراطية كقيم وآليات ومعايير، فهو أيضا يكره الآخر الذي يعيش معه حالة تنافس؛ من المنطلقات نفسها وعلى القاعدة ذاتها، وهو في النهاية يعيش حالة كره لذاته الأخرى، أي لوجه العملة الآخر؛ وجه المواطنة، الوجه الذي يجسد الشراكة في الوطن، وفي الكلأ، وفي الماء، وفي التصحر والجدب الثقافي والنزوع الانقلابي على الذات، وهو ما يعني وبكل وضوح سيادة روح الهزيمة الذاتية؛ في واقع يتمذهب سياسيا ودينيا كلما لاح بريق الهيمنة السلطوية من هنا أو من هناك.

***

لكن الأخطر... بات الخروج من الديمقراطية، بل أمسى النكوص والإزاحة عنها، وتلك وصفة لقوى الاستبداد السياسي/الديني، أو تلك التي تتلفع بأردية شعبوية متلونة؛ وصولا إلى الفرض القسري لتمثيل ما يتعدى نطاقات المجتمع أو الشعب أو الأمة، إلى نطاقات المجتمعات والشعوب والأمم، وكأن النزوع «التحرري الأممي» بات وقفا على قوى الاختزالية الجديدة، أو أولئك العصاة على أوطانهم، أو من يخرجون من الوطن السياسي؛ انحيازا واختيارا لوطن العصبوية المتمذهبة، حيث يصبح المجتمع مجرد عصبوية لا متناهية من حلقات انتماء قسرية لـ«المجتمعات البديلة»، وحيث قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية تصبح مرذولة، حتى يتم التحاقها بمركز العصبوية المتمذهبة، وإلا فإنها وفي انتمائها إلى الوطن السياسي ونزوعها الديمقراطي فيه، فإنها تعيش شبهة انحيازها إلى وطن سياسي آخر!

* كاتب فلسطيني

back to top