ألعاب تفاوضية في أوقات الفراغ

نشر في 07-09-2008
آخر تحديث 07-09-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد القمة الرباعية في دمشق هي أكثر قليلا من لعبة تفاوضية في أوقات الفراغ.

اللعبة بدأت في الحقيقة منذ قبلت سوريا المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيلي برعاية تركية. فسوريا تعلم علم اليقين أنه لن يكون هناك اختراق كبير في المفاوضات طالما أميركا غائبة ورافضة. ورغم أن قيادة أولمرت- باراك هي التي اقترحت المفاوضات وكانت ولازالت تريده، فالمزاج العام في إسرائيلي ليس مواتيا اطلاقا لعملية سلام حقيقية تنتهي بانسحاب إسرائيلي من الجولان. وثلثا سكان إسرائيل تقريبا يعارضون ما يسمونه أي تنازل في الجولان.

قبلت سوريا المفاوضات غير المباشرة لثلاثة أسباب أساسية. أول وأهم هذه الأسباب هو احراج أميركا واقناعها أنه لا أمل لها في «عزل سوريا»، خصوصا بعد أن أعلنت إسرائيل نفسها تدشين المفاوضات غير المباشرة. ويرتبط بذلك محاولة توسيع الثغرة بين الموقفين الإسرائيلي والأميركي فيما يتعلق بسوريا وبالقضايا الأخرى في المنطقة. أما السبب الثاني فهو الرد بصورة عملية ومضمرة بالطبع على كل من مصر والسعودية بعد أن أخذت العلاقات معهما في الاحتقان بصورة كبيرة بسبب السياسات السورية في لبنان وتحالف سوريا مع إيران. وكأن سوريا تقول إنها قادرة على مخاطبة إسرائيلي ومن خلالها أميركا والغرب من دون حاجة إلى وساطة أو تدخل من جانب القوتين الرئيسيتين في العالم العربي ومن دون أن تضحي سوريا بأي جانب من سياساتها الإقليمية أو الدولية كما طلبتا.

أما السبب الثالث، فهو اطلاق عملية تتناقض وتنهي ممارسة إسرائيل لسياسة الضربات العسكرية الدورية الموجهة لسوريا والتي تهين القيادة والنظام في سوريا بعمق. ويضاعف من أهمية هذا العامل أن سوريا لا تستطيع السكوت للأبد في مواجهة هذه العمليات ولا تفضل في الوقت نفسه أن تقوم برد عسكري قد يورطها في حرب أوسع وغير متكافئة وفي ظروف دولية وإقليمية غير مواتية.

وربما تكون سوريا قد أفادت أيضا من عقد المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل في الضغط على إيران وربما «حزب الله» أيضا. فطالما أن سوريا هي الجسر الأهم لعبور الدعم العسكري والاقتصادي الإيراني لـ»حزب الله» كما أنها هي الواسطة الأساسية للنفوذ الإيراني في المنطقة فيمكنها أن تحصل من إيران أكثر مما هو ضروري لتعويضها عن الخسائر المالية الناجمة عن تدهور العلاقات مع السعودية. من السهل ملاحظة أن هذه العوامل جميعها تكتيكية وربما عارضة. والأهم أن الاهتمام الرئيسي ليس بوصول المفاوضات إلى نتيجة، بل إن المفاوضات صارت بذاتها هدفا أو وسيلة لأهداف ورسائل تكتيكية لا تغير جوهريا من الاستراتيجية السورية. صحيح أن سوريا يمكنها أن تفيد بالوقت الذي تقضيه في المفاوضات بإعداد تصورات عن البدائل الممكنة والتفاصيل التي لابد لأي اتفاق أن يشملها، ولكن هذا الغرض تكميلي في أحسن الظروف. وكان الطرفان قد قتلا القضايا المطروحة بحثا في أربعة جولات تفاوضية كبيرة بعد اطلاق مؤتمر مدريد من دون أن يتوصلا إلى اتفاق.

إن كل طرف يعرف تماما ماذا يريده الأخر وماذا يتعين عليه أن يفعل لكي يحصل على اتفاق. والقضية هي ما إذا كان يريد فعلا الحصول على اتفاق أم أن الوقت يتم ازجاؤه في اللعب لتحقيق أهداف أخرى.

من المؤكد أن سوريا «تلعب» فيما تراه وقت الفراغ وحتى تتغير الإدارة ويحدث انقلاب في السياسة الأميركية نحو سوريا.

ولكن فرنسا أيضا «تلعب». والفراغ لا يتعلق فقط بالوقت، بل بالمبادرات والسياسات. ففرنسا تريد استغلال الشلل السياسي الأميركي قبل وبعد الانتخابات لإثبات قدرتها على الفعل ولو لم تتحقق نتيجة فورية. فالمبادرات حتى الفاشلة تحسب لمصلحة فرنسا في هذه المنطقة.

وفرنسا «تلعب» بوضوح لأنها تعلم علم اليقين أنه لا يوجد في إسرائيل زعيم يستطيع اتخاذ أي قرار استراتيجي وضخم مثل توقيع اتفاق مع سوريا، وخصوصا أن عليه اقناع رأي عام معارض بشدة. والسياسة الإسرائيلية وحتى تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الداخلية في «كاديما» ستصاب بالشلل أيضا. ومن العجيب أن يختار الرئيس الفرنسي هذه اللحظة بالذات وقبل أن يتم اختيار زعيم إسرائيلي جديد لعقد قمته مع الرئيس السوري. والتفسير الوحيد أنه «يلعب» لمصلحة طرف ما في الساحة السياسية الإسرائيلية. وإن صدق هذا التفسير فمعناه أن الرئيس الفرنسي يريد الحصول على تنازلات سورية تعزز فرصة سياسي إسرائيلي ما في الوصول إلى مقعد القيادة مقابل فك العزلة عن سوريا وربما أيضا التزام من جانب هذا السياسي بعقد اتفاق في وقت مناسب مع سوريا. والأرجح أن الرئيس الفرنسي يلعب لمصلحة السيدة ليفني وزيرة الخارجية التي يراهن عليها الجميع تقريبا لاقناع الرأي العام الإسرائيلي بالمرونة ربما لأنها واحدة من أقل السيدات المشتغلات بالسياسة في العالم كله مرونة.

وعلى أي حال فاللعبة الفرنسية مفيدة في معترك آخر تماما وهو الرهان الأوروبي على اطلاق عملية إقليمية يكون من شأنها توسيع المسافة بين سوريا وإيران وصولا إلى كسر التحالف بين الدولتين، وهو أمر مهم للغاية في الدبلوماسية الأوروبية الهادفة إلى إجبار ايران على التسليم بالمقاربة الأوروبية للملف النووي. إسرائيل من ناحيتها «تلعب» في وقت الفراغ. فهي دُفعت إلى مفاوضات مع سوريا ولو غير مباشرة، كما أرادها الرئيس السوري، لأسباب كلها عارضة أيضا. أول هذه الأسباب هو جس نبض الرئيس السوري والتعرف على مدى ما يمكن أن يصل إليه في تغيير سياساته وبالذات تحالفاته الإقليمية في حال حصوله على اتفاق يعيد إليه الجولان. ولا شك أن إسرائيل تتمنى لو أمكنها وأمكن فرنسا والغرب عموما أن ينفرد بإيران بكسر تحالفها مع سوريا. ولا نعلم ما إذا كانت إسرائيل مستعدة للانسحاب فعلا من الجولان كثمن سياسي لسوريا أم لا. ولكن ليس من المستبعد أن تكون المؤسسة الحاكمة في إسرائيل مستعدة لذلك لما يعنيه من نتائج استراتيجية واسعة النطاق في المنطقة لمصلحتها.

فإن وقع انقلاب في التوجهات الاستراتيجية لسوريا وتم تتويجه باتفاق سلام ستكون المنطقة كلها قد صارت في جيب إسرائيلي؛ فأولا، سيكون من المحتمل، بل من المرجح، أن تتولي سوريا «تكميش» (حزب الله) ونفوذه في لبنان. وثانيا، ستتم تصفية المعارضة الفلسطينية بتياراتها المختلفة في سوريا، وهي البقعة الوحيدة التي لازالت صالحة لتواجدها في المنطقة. وثالثا والأهم، أن إيران ستكون خرجت من الحسابات السياسية، وإن لم تخرج بالضرورة من الحسابات الاستراتيجية في المنطقة. وببساطة فان سوريا موالية للغرب ومتصالحة مع إسرائيل مضافة إلى العراق ومصر والأردن يعني أن إسرائيل حصلت على «ولادة ثانية».

ولكن هذه الحسابات كلها افتراضية لأن اللعبة غاية في الدقة والصعوبة. وعلى سبيل المثال لن يمكن لسوريا أن تتخلى عن تحالفها مع إيران إلا إن ضمنت بصورة قطعية استعادة الجولان. ومهما كان اقتدار المؤسسة الحاكمة في إسرائيل فهي لا تستطيع ضمان تأييد الرأي العام بعد أن صار الاستفتاء الشعبي على هذه القضية قانونا ملزما.

قطر هي البلد الوحيد الذي لا يلعب في اللقاء الرباعي بدمشق. فبمجرد حضورها تكون قد حققت عائدا سياسيا فوريا يعزز من صورتها كدولة ذات دبلوماسية خلاقة ونشطة في وقت صارت فيه القوى الاقليمية الكبيرة «بط أعرج».

اللعب في أوقات الفراغ قد يكون «ممتعا» للسياسي المحترف و«موجعا» لأمة تكاثرت عليها المحن.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top