شعار الدولة الواحدة 1

نشر في 14-09-2008
آخر تحديث 14-09-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد المفهوم تاريخيا أن شعار تأسيس دولة فلسطينية على الأرض المحتلة في يونيو 1967 كان تراجعا عن شعار الدولة الديمقراطية الواحدة للعرب واليهود في فلسطين تحت الانتداب. وهذا التراجع فرضته موازين القوى والاعتبارات الاستراتيجية. واليوم صار هذا الشعار نفسه بعيد المنال نظرا لوقوع مزيد من التدهور في موازين القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل.

والعودة إلى فكرة الدولة الواحدة تعكس هذا الواقع، خصوصا مع امتداد الاستيطان إلى جزء كبير من الضفة ومحاصرته القدس من الجهات جميعها. ويؤكد المدافعون عن فكرة الدولة الواحدة أنه لن يكون هناك مجال لدولة فلسطينية حتى بالمعنى الجغرافي البسيط أي أن حل الدولتين يعني في أفضل الأحوال منح الفلسطينيين مجرد «جيتو» كبير ومعزول.

فقد أدت تحولات موازين القوى إلى انكماش مستمر في الأرض التي يفترض أن تبنى عليها الدولة الفلسطينية. فكانت مساحة الأراضي المخصصة للفلسطينيين في خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1947 تصل إلى 45% وكانت نوعيتها أفضل من وجهة نظر بناء دولة ذات علاقات خارجية مباشرة. وبعد هزيمة 1967 استقر تفسير يقول بانسحاب إسرائيل من الضفة والقطاع فقط، وهما يمثلان 23% من الأرض المحتلة. ولنلاحظ بالطبع أن التواصل الجغرافي بين الضفة- وهي أرض محصورة بين إسرائيل والأردن أو محاصرة بينهما- وغزة مفقود وسيكون تحت رقابة إسرائيلية دائمة. وإن افترضنا بناء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع فسوف تمر غالبية التجارة الفلسطينية عبر الموانئ الخاضعة لإسرائيل لأن هذا الخيار أفضل اقتصاديا بكثير من أن تمر إلى غزة ثم تذهب إلى السوق الرئيسي في الضفة. ونظرا لأن السماء والبحار الفلسطينية سوف تخضع كذلك لترتيبات أمنية وسياسية إسرائيلية فالدولة الفلسطينية لن تكون شيئا سوى امتداد هامشي لإسرائيل نفسها.

وحتى في هذا الاطار تراجعت مساحة الأراضي التي وافقت إسرائيل على الانسحاب منها في مفاوضات «كامب ديفيد 2» بنسب مختلفة حسب الروايات المتباينة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لما جرى في هذه المفاوضات حتى نهاية إدارة كلينتون في يناير 2001. ولو أخذنا بالرواية الإسرائيلية يتم الانسحاب من 95% في مساحة الضفة ويتم تبادل أراض لتعويض الفلسطينيين. أما الرواية الإسرائيلية فتشير إلى الخديعة في هذا الحساب لأن القدس الكبرى التي تبتلع نحو خمس الضفة ليست جزءا منه. وعلى أي حال كان العرض الإسرائيلي في «كامب ديفيد 2» أقل من المفترض لدولة فلسطينية وفقا للقرار 242. واليوم تصر الزعامات الإسرائيلية على استحالة إعادة العرض المقدم في «كامب ديفيد 2». وما تسرب من عروض إسرائيلية في المفاوضات الحالية ليس مبشرا بحال.

الحاجة إلى تجربة سياسية أصيلة

ولابد أن نضيف إلى هذه الاعتبارات صعوبة تأسيس اقتصاد فلسطيني مستقل حتى لو تمت تسوية القضايا الشائكة، وخصوصا القدس واللاجئين والمياه. وكان اتفاق باريس عام 1996 وكذلك الواقع على الأرض حتى اللحظة الراهنة كاشفا لحقيقة التبعية الاقتصادية الوثيقة التي تفرضها إسرائيل وتفرضها حقائق الجغرافيا الاقتصادية أيضا.

ومع ذلك، فإن هذه الحجج المضادة لتأسيس دولة فلسطينية ليست منيعة على النقد. وأهم أوجه النقد أن من يناهضون فكرة «الدولتين» ينظرون إلى الدولة من زاوية الأراضي أكثر مما ينظرون اليها من زاوية السكان والحالة الوطنية والقومية وما يرتبط بها من عوامل الولاء وصنع السياسة والتمتع بالحقوق السياسية والثقافية. وحقيقة الأمر أن هذه هي العوامل الحاسمة ليس فقط في البحث عن صيغة للحرية والاستقلال، وإنما أيضا للرفاه الاقتصادي. ذلك أن الشعب هو الذي يصنع الثروة وليست الأراضي ولا الموانئ ولا الثروات الطبيعية. ويكفي في التدليل على ذلك أن نشير إلى الضريبة الكبيرة التي يدفعها الهنود والصينيون نظير استيراد النفط. ومع ذلك فهم مهما دفعوا لن يكلفهم أكثر من نسبة صغيرة من القيم المضافة الكبيرة التي تصنعها عقولهم وعملهم.

ومن هذا المنظور فأكثر ما يحتاجه الفلسطينيون هو خوض تجربة سياسية أصيلة تحررهم ذهنيا وتمنحهم الحق في الاستقلال السياسي والحق في التمتع بثقافتهم، وهو في تقديري أهم كثيرا من حساب نسب الأراضي المستعادة. لقد خسر الفلسطينيون ومعهم العرب الأرض أصلا بسبب الاستعمار السياسي والثقافي والتخلف المرتبط بهما. والحقيقة أنه لا بديل عن شعار دولة فلسطينية إن كانت لهذه العوامل الأولوية في قائمة الحاجات الفلسطينية. وبتعبير آخر يحتاج الفلسطينيون إلى تجربة يقومون فيها بحكم أنفسهم بأنفسهم لفترة طويلة قبل أن «يتحدوا» مع آخرين في دولة واحدة حتى لو كانت عربية فما بالنا لو كانت هذه الدولة تحت سيطرة اليهود الصهاينة. فإن أمكنهم تطوير تجربة حكم ديمقراطي أصيلة وصالحة لدفعهم نحو نهوض شامل، فسوف يمكنهم تحقيق حدا أدنى من الندية في التعامل مع شعب أو مجتمع متفوق اقتصاديا وتكنولوجيا وتنظيميا.

الدولتان طريق ضروري للدولة الواحدة

ويعني ذلك أن الدولة الفلسطينية المستقلة نسبيا تمثل شرطا لتطبيق شعار الدولة الواحدة في كل فلسطين تحت الانتداب وليست نقيضا لها. كل ما هناك أن شعار الدولتين هو الطريق للدولة الواحدة في النهاية.

وتحل هذه الصيغة الإشكالية النظرية والعملية الأعظم في شعار الدولة الواحدة. القائلون بدولة واحدة في كل فلسطين تحت الانتداب صنفان. الأول، يفترض إمكان تطبيق الشعار بالتفاوض. والثاني، يؤمن بأن الشعار قابل للتحقيق بالوسائل العسكرية. والواقع أن البديل الأول مغلق تماما. ويرفض الإسرائيليون مجرد طرح الفكرة على بساط البحث لأنها تعني بالنسبة لهم دولة فلسطينية واحدة بمرور الوقت وتأكد الأغلبية العددية للفلسطينيين. وببساطة لم يخض الإسرائيليون هذه الحروب كلها وتلك التجارب المريرة جميعها من أجل بناء دولة فلسطينية حتى لو كانت شراكة مع اليهود. وعلى الجانب الآخر، فإن خوض تجربة تقوم على إقناع اليهود في فلسطين بقبول التعايش السلمي والديمقراطي في فلسطين واحدة يفترض ضمنا التنازل الطوعي عن الحق في المقاومة المسلحة للاحتلال.

أما فرض هذا البديل بالقوة فيشتمل على تناقض أصيل ومستعص على الحل. اذ كيف يمكن اقناع اليهود بالتعايش في دولة واحدة مع فلسطينيين يحاربونهم بالقوة؟ وواقع الأمر أنه لو كان يمكن فرض هذا الحل بالقوة لكانت النتيجة الحتمية هي دولة فلسطينية قد تتسامح مع وجود يهودي وليس دولة يتعايش فيها شعبان.

تحل فكرة الحل القائم على دولتين هذه المعضلة مع الزمن. فإن تمكن الشعب الفلسطيني من تأسيس تجربة سياسية أصيلة ونظّم المجتمع السياسي نفسه وتمكن من إنتاج نخبة جديدة تجمع بين المهارة السياسية والذكاء في بناء الاقتصاد، فسوف يكون قادرا على إقناع الإسرائيليين بالاتحاد في دولة واحدة. ومن الناحية الموضوعية، فإن بناء دولة فلسطينية يفرض يوميا تفاعلات في سائر المجالات تحتم مع الوقت إعادة توحيد جزئي فلسطين تحت الانتداب، وخصوصا لو أن الفلسطينيين أداروا هذه العملية التاريخية بذكاء.

فهل هذا ممكن؟

نتصور أن العكس أيضا محتمل للغاية. فلو استمر الفشل الفلسطيني في بناء سلطة نزيهة وديمقراطية وقادرة على إدارة النهضة بذكاء، لن يحصل الفلسطينيون على دولة، وإن حصلوا على دويلة فسوف تكون مشوهة وتابعة، بل ومنحطة أخلاقيا مثل بقية الدول العربية، وهو ما يعني استحالة أن تنشأ دولة واحدة وتكون ديمقراطية في الوقت نفسه.

ويجبرنا هذا التحليل المنطقي على الإجابة بنعم على إمكان تحقق السيناريو الأفضل. نعم... يستطيع الفلسطينيون، وإن بعد معاناة، بناء سلطة نزيهة تقودهم إلى التقدم كشرط للاستقلال الحقيقي ثم كشرط لعلاقات ندية مع اليهود في فلسطين التاريخية. والشرط الرئيسي لهذا النجاح هو أن يكون هو الهدف وهو الاستراتيجية الجديدة للشعب الفلسطيني. (يتبع)

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top